عن “منشورات مركز أوغاريت الثقافي”، في رام الله، صدرت رواية “المسكوبية” بفصول من سيرة العذاب للكاتب والصحفي الفلسطيني أسامة العيسة” وفي هذا العمل تصوير لواقع التحقيق والتعذيب الذي يعيشه المعتقلون الفلسطينيون في أقبية المعتقلات الإسرائيلية، وفي المسكوبية كنموذج لذلك، وقد سرد لنا العيسة تجربته الشخصية في المسكوبية متطرقا إلى جوانب من تجارب رفاق آخرين التقاهم في المعتقل.
المسكوبية هي نسبة إلى “المسكوب” وهو الاسم الذي يطلقه عامة الناس على الروس، ويعود تاريخ المسكوبية إلى العام 1857، لقد بناه الروس كمجمع للمصالح الروسية، حيث يضم نزلا للحجاج الذين يجدون فيه كل شيء، من المستشفى إلى الكنيسة وحتى المحكمة والسجن، وجميعها أبنية فخمة ذات هندسة معمــارية مميـــزة، بنيت من الحجارة المحلية.
وعندما احتل البريطانيون فلسطين خلال الحرب العالمية الأولى، ووصل الجنرال البريطاني القدس في 9 ديسمبر سنة 1917، أعلن بسط الاحتلال على فلسطين من قلعة باب الخليل، وكانت آنذاك الثورة البلشفية قد اندلعت بروسيا في السابع من نوفمبر من العام ذاته، ووضع البريطانيون أيديهم على الأملاك الروسية في فلسطين، ومن بينها تلك الدرة المسكوبية.
رمزية المكان
يشكّل اسم “المسكوبية” ذاكرة مركبة بالنسبة إلى الفلسطيني، منذ أن أقامتها جمعية روسية في القدس، لتكون مجمّعا للجالية الروسية وزوّارها، فيه ثقافة وفيه تقارب، وفيه صبغة دينية، ولتكون امتدادا للفعل الروسيّ الثقافي التعليمي على الأرض الفلسطينية وما حولها، في الربع الأول من القرن العشرين.
لكن هذا المجمع تحوّل إلى غير وظيفته مع الاحتلال البريطاني للبلاد، بعد الحرب العالمية الأولى، حين أصبح سجنا لأحرار فلسطين الذين هبوا يقاومون الاحتلال البريطانيّ، وما جلبه معه من غزو صهيوني، كانت أبرز مهماته أن يسهل له تحقيق أهدافه، تنفيذا لوعد بلفور.
المسكوبية لم تبق على حالها كسجن فحسب، مع الاحتلال الإسرائيلي للقدس، ولكنها تحوّلت إلى مركز تمارس فيه أنواع مبتكرة من التعذيب غير الإنساني الذي يتعرض له أي فلسطيني يدافع عن حقه في الأرض وفي الوجود. وإذا كان بعض أشهر أحرار فلسطين قد مروا بالمسكوبية خلال فترة الانتداب البريطاني، فإن الاعتقال فيها، والتعذيب، صارا إلى حدّ كبير جزءا من حياة كلّ فلسطيني، زمن الاحتلال الاستيطاني الصهيوني، من خلال التهم الجاهزة التي يتقن هذا الاحتلال تلفيقها.
الذاتي والتاريخي
الرواية تنتقل بين التجربة الذاتية والتجربة التاريخية، وبين ما كتبه صاحبها وما أخذه عمن سبقوه، بسلاسة واضحة، ومنطق مقنع، ما يجعل منها عملا يستحق أن يأخذ مكانته في تجربة النضال من خلال الكلمة الصادقة، وفي الإنجاز الروائي الفلسطيني الجديد، الذي يتجاوز اجترار الذكريات، ليدخل في الفعل المؤثر، ويشكّل قفزة نوعية في الفن الروائي الفلسطيني.
وفي الرواية حديث عن أساليب التعذيب الجسدي مثل الضرب على كافة أعضاء الجسد بما فيها الأعضاء التناسلية، وتقييد الأيدي وترك السجين يتبوّل في ثيابه وما يصاحب ذلك من عذابات نفسية، وترك المعتقل في زنازين ضيقة ومعتمة لا يعرف ليله من نهاره.
كما ضمّت الرواية حديثا عن جريمة اليهودي الأسترالي غولدمان الذي أطلق النار على المصلين في باحات المسجد الأقصى في أبريل 1982 مما أدّى إلى استشهاد ثلاثة فلسطينيين وإصابة العشرات بجراح، واعتقال المئات، الذين اقتيدوا إلى المسكوبية للتحقيق والاعتقال.
أسامة العيسة واحدٌ ممن مرّوا بالمسكوبية، مرورا غير عابر. وأسامة القارئ المتأمل الذي سبقت له تجربة في كتابة السرد من خلال مجموعة قصصية صدرت عن مركز أوغاريت الثقافي أيضا بعنوان “انثيالات الحنين والأسى” (2004)، كما أصدر “قبلة بيت لحم الأخيرة” و”مجانين بيت لحم”، لم يكن ليسمح لهذه التجربة بأن تمرّ عابرة.
ولكنه، ومع تمرّسه في الكتابة، لم يتوقف عند سردها كتجربة شخصية، أو كجزء من سيرة، كما فعل كثيرون في تجربة السجن والتحقيق والاعتقال، ولكنه حوّلها إلى نصّ روائي له خصوصية لا يخطئها ذهن، تعبُرُ الحدَث الآنيَّ نحو حدث سابق، وتربط كل ذلك معا كي تقدّم لوحة شاملة لهذا الصرح، منذ نشأ حتى لحظته الحالية.
رواية الأسر
وأسامة العيسة في “المسكوبية”، يقدّم لنا روايته عن الأسر بأسلوب روائي، استخدم فيه أسلوب الاسترجاع بلغة أدبية منمقة، رغم أن الموضوع لا يحتمل البلاغة، لكن مرور الزمن ما بين الاعتقال والتدوين، وصقل تجربة الكاتب بدخوله معترك الحياة أدبيا وثقافيا وسياسيا واجتماعيا وحياتيا أملت عليه أن يكتب عملا روائيا جيّدا رغم مرارة مذاق المضمون.
لم يخلُ من السرد الذي جاء أحيانا على شكل أخبار أو تحقيقات صحفية، وهذا لا ينتقص شيئا من مقام البناء الروائي وهيبته اللذين صيغا متناسقين ومشوقين، رغم ما يحتويه السرد من عذابات أشخاص، هي في الواقع عذابات شعب”.
ومع أن الكاتب حرص على أن تكون التجربة الذاتية هي الإطار الذي شيّدت عليه رواية المسكوبية التي صدرت عن مركز أوغاريت، باعتبارها الحدث الحميم الذي يكون التعبير عنه أكثر بلاغة، إلا أن ذلك لم يجعله يهمل التقصي في تاريخ المبنى، وفي وصفه، وفي متابعة ما كتبه من مروا به من قبل، حين كان صرحا ثقافيا، ثم بعد أن قلب الاحتلال وظيفته هذه إلى نقيضها.
|
http://www.alarabonline.org/?id=20789 |
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق