يشكّل اسم "المسكوبية" ذاكرة مركبة بالنسبة للفلسطيني، منذ أقامتها جمعية روسية في القدس، لتكون مجمّعا للجالية الروسية وزوّارها، فيه ثقافة وفيه تقارب، وفيه صبغة دينية، ولتكون امتدادا للفعل الروسيّ الثقافي ا...لتعليمي على الأرض الفلسطينية وما حولها، في الربع الأول من القرن العشرين.
لكن هذا المجمع تحوّل إلى غير وظيفته مع الاحتلال البريطاني للبلاد، بعد الحرب العالمية الأولى، حين أصبح سجنا لأحرار فلسطين الذين هبوا يقاومون الاحتلال البريطانيّ، وما جلبه معه من غزو صهيوني، كانت أبرز مهماته أن يسهله، تنفيذا لوعد بلفور.
المسكوبية لم تبق على حالها كسجن وحسب، مع الاحتلال الإسرائيلي للقدس، ولكنها تحوّلت إلى مركز لأنواع مبتكرة من التعذيب غير الإنساني الذي يتعرض له أي فلسطيني يدافع عن حقه في الأرض وفي الوجود. وإذا كان بعض أشهر أحرار فلسطين قد مروا بالمسكوبية خلال فترة الانتداب البريطاني، فإن الاعتقال فيها، والتعذيب، صارا إلى حدّ كبير جزءا من حياة كلّ فلسطيني، زمن الاحتلال الاستيطاني الصهيوني، من خلال التهم الجاهزة التي يتقن هذا الاحتلال تلفيقها.
أسامة العيسة واحدٌ ممن مرّوا بالمسكوبية، مرورًا غير عابر. وأسامة القارئ المتأمل الذي سبقت له تجربة في كتابة السرد من خلال مجموعة قصصية صدرت عن مركز أوغاريت الثقافي أيضا بعنوان "انثيالات الحنين والأسى" ـ 2004، لم يكن ليسمح لهذه التجربة بأن تمرّ عابرة، ولكنه، ومع تمرّسه في الكتابة، لم يتوقف عند سردها كتجربة شخصية، أو كجزء من سيرة، كما فعل كثيرون في تجربة السجن والتحقيق والاعتقال، ولكنه حوّلها إلى نصّ روائي له خصوصية لا يخطئها ذهن، تعبُرُ الحدَث الآنيَّ نحو حدَث سابق، وتربط كل ذلك معا لتقدّم لوحة شاملة لهذا الصرح، منذ نشأ حتى لحظته الحالية.
ومع أن الكاتب حرص على أن تكون التجربة الذاتية هي الإطار الذي شيّد عليه رواية المسكوبية التي صدرت عن مركز أوغاريت، باعتبارها الحدث الحميم الذي يكون التعبير عنه أكثر بلاغة، إلا أن ذلك لم يجعله يهمل التقصي في تاريخ المبنى، وفي وصفه، وفي متابعة ما كتبه من مروا به من قبل، حين كان صرحا ثقافيا، ثم بعد أن قلب الاحتلال وظيفته إلى نقيضها.
الرواية تنتقل بين التجربة الذاتية والتجربة التاريخية، وبين ما كتبه صاحبها وما أخذه عمن سبقوه، بسلاسة واضحة، ومنطق مقنع، ما يجعل منها عملا يستحق أن يأخذ مكانته في تجربة النضال من خلال الكلمة الصادقة، وفي الإنجاز الروائي الفلسطيني الجديد، الذي يتجاوز اجترار الذكريات، ليدخل في الفعل المؤثر، ويشكّل قفزة نوعية في الفن الروائي الفلسطيني، لا يستطيع أن يقوم بها إلا هذا الجيل الشاب، حين يكون قارئا متأملا، وكاتبا من أجل الكتابة، لا المصلحة الذاتية ولا الاستعراض السائد.
هذا هو حال أسامة العيسة مع الكتابة، لذلك فإن جهده، مع جهد الموهوبين الجادين من أمثاله، هو الذي يبسط أمامنا مساحة للأمل في مغالبة السطحيّ والاستعراضيّ والتافه من كثير مما يكتب في بلادنا هذه الأيام، وهو الجهد الذي نرى، نحن في مركز أوغاريت الثقافي، أنه يشكل علامة فارقة في طريق الأدب الفلسطيني الجديد.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق