أهلين

"من عرف الله سار، ومن سار طار، ومن طار حار". عجيل المقدسي.

الأحد، 16 أكتوبر 2011

سقط عمدًا..!

 

قبل ظهر يوم 25-8-2011، رن هاتفي الجوال، لأسمع صوتا على الجانب الاخر، لم يكن غريبًا علي، شعرت انه ات من عمق بعيد، لكنني للوهلة الأولى، لم استطع تحديده، او انني خشيت من خذلان احساسي، فلم أجب على السؤال الهادر عبر الشبكة اللاسلكية:
_أسامة.. هل تعرف مين معك؟
وسمعت ضحكة مجلجة أعقبها صوت قوي وحنون:
-انا عيسى..عيسى عبد ربه..يا صديقي العزيز..أبو السيم..!
عيسى..نعم هو صوت عيسى الذي لم أسمعه طوال 27 عاما، وها نحن نلتقي مجددا، ولوّ عبر دقائق محدودة، كان عيسى قد حاول الاتصال معي اكثر من مرة على المنزل، ولسوء حظي ونحسي الشديدين، لم أكن، موجودا.
امضى صديقي عيسى عبد ربه 27 عاما، خلف القضبان. وكأن الامر حدث بالأمس، حكاية ستصبح عادية في ليل احتلال طويل طويل. امسك جنود الاحتلال بابن عمه محمد (15 عاما)، وقادوه قبالة مخيمنا، مخيم الدهيشة، قطعوا به شارع القدس-الخليل، شارعنا التاريخي (الذي حولوه الى قطع متناثرة هو الاخر)، وقتلوه بدم بارد، لقد اعدموا ذلك الطفل.
أُعتقلت حينها مع مجموعة من شباب المخيم، وامضينا فترة في سجن جنين المركزي، كإجراء احترازي، وفُرض حظرا طويلا للتجوال على المخيم، وقمع المحتلون ناسه بشراسة.
عيسى لا يحب الحلول الوسط، وينشد العدالة، ومن وجهة نظره، فان الاستنكارات والتظاهرات والعمل الجماهيري، والبيانات، لم يكن كافيا للرد على جريمة قتل ابن عمه المروعة، فنفذ عملية، اعتقل على اثرها لتصدر محكمة عسكرية عليه حكما بالسجن 99 سنة و5 دقائق وثلاث ثوان.
قبل اعتقاله، جاءني، حاملا هدية هي عبارة عن لوحة تمثل مريم العذراء، وعلى يديها ابن مدينتنا، الفادي، طفل المغارة. لم يشرح عيسى شيئا، واكتفى كما كان يفعل دائما بالابتسام...ثم مضى.
هل كان يحمل رسالة ما؟ هل اراد ان يقول لي شيئا؟ هل اراد ان يخبرني على طريقته، بان طريقينا سيفترقان كل هذه السنوات؟
لم تنصف صفقات التبادل السابقة عيسى، واعتبرت ذلك من سوء حظه وحظي، حتى الصفقة الاخيرة، كنا على قناعة كبيرة بان اسمه سيكون من الاسماء الاولى في الصفقة، وجهزنا انفسنا لاستقباله، حتى قبل الاعلان الاخير عنها، مسألة خروجه في هذه الصفقة، مسألة محسومة بالنسبة لعائلته ومحبيه، لماذا؟ لا اعرف؟ ربما لأننا لم نكن نريد ان نصدق بان الحد القليل من العدالة، لا بد وان يعني ان عيسى عبد ربه، عميد اسرى بيت لحم، سيكون حرا بيننا وفي احضان والدته (أمونه)، وهي قصة صمود اخرى واستثنائية.
أمونه عبد ربه التي واكبت مسيرة ابنها، الذي لم نناديه الا باسم (عيسى امونه)، والذي رجحت السنوات التي امضاها في السجن عن تلك التي عاشها خارجه، هدها المرض، ولكن ذلك لم يجعلها تتخلى عن الدور الذي قبلته لنفسها، كأم لجميع الاسرى، فواظبت على المشاركة في كل الفعاليات التضامنية معهم، واعلنت الاضراب، مؤخرا، وهي على ابواب الثمانين عاما، تضامنا مع اضرابهم.
منذ ايام وانا ابحث عن اسم عيسى، في كل قائمة تضم اسماء الاسرى، من القوائم غير الرسمية والرسمية والأولية والنهائية والحمساوية والفلسطينية، ولكنني لم اجده، لا شك ان اسم عيسى عبد ربه الذي سيدخل في العشرين من الشهر الجاري عامه الثامن والعشرين في السجن، سقط عمدا هذه المرة.
لم استطع رؤية (أمونه)، لأرى تأثير سقوط اسم ابنها من القوائم عليها، ولا اريد ان افكر فيما سأقوله لعيسى لوّ ان هاتفي رن فجأة، ليأت صوت من بعيد ليقول لي:
-انا عيسى يا اسامة..انا ما زلت هنا..!
ثم، كما كان يفعل دائما يطلق ضحكة مجلجة.
صديقي عيسى، لقد ضحكت علينا هذه الدنيا حتى افنتنا،..ربما لان ساكن السموات، اراد لك الخير، فاختار لك المكان الذي انت فيه، كي لا ترى ما رايته طوال السنوات الـ 27 الماضية، ماذا سأحكي لك عنها اذا التقينا مرة اخرى..!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق