أهلين

"من عرف الله سار، ومن سار طار، ومن طار حار". عجيل المقدسي.

الأربعاء، 24 يناير 2024

في الطريق إلى زعترة!


 


من يوميَّات الدم والنرجس

في الطريق، مشيًا، من خلايل اللوز إلى زعترة، لم ألحظ إلَّا زهرة حنَّون حمراء واحدة صغيرة ملتفة حول نفسها، خجلى من التفتح وحدها. خلال الأسبوعين الماضيين، انشغلت بالنرجس في حديقة خلايل اللوز، لكنَّه بدأ يذوي، تحب النرجس المطر والبرد، لا تعش بدونهما، والأجواء في جبال القدس ربيعيَّة.

أيتها السماء نحن سلالة النرجس والحنُّون والزوزو، وفي عروقنا تسري دماء أدونيس، التي ما زالت تصبغ حنُّوننا، ولا يتركنا، فيطأ الموتَ بالموتِ، وينهض، لا يخلف ميعاده. لا تتلاعبي بنا يا سماءنا "نحن الأرض لا تحرمينا المطر-بالإذن من راشد حيسن".

تُغيِّر البلاد أديانها، لكنَّها تتوارث رموزها، وآلهتها، وأنبيائها، وأبطالها الأسطوريين، وأوليائها الصالحين، والتائهين، والحائرين.

أفسدتُ خططُا، لأعزِّاء، توقفوا في الطريق لنقلي. عندما غادرت علِّية خلايل اللوز، مودعًا زيوس، الذي هزَّ ذنبه معبرًا، ووقفت على الشارع المسفلت، فكرت النزول عبر وادي الطواحين، لم أسر في قاعه منذ سنوات. استن الراحل موسى سند، رحلة الربيع من برك سليمان، إلى الفرديس (الهيروديون) الذي تمنى راعي غنام ملول، في يومٍ لو ينقلب إلى كُسبة؛ الاختراع الخليلي، الذي دوَّخ عقول، وقلوب!

لا شك أن هيرودس، عظيم فلسطين، ضحك تحت التراب. هيرودس أهم من حكم البلاد، فهم روح فلسطين، ولم تكن حدودها محصورة "من المية للمية" فقط. مأساته، هي دراما، كل عظيم، ناوئه الدين الجديد، ووصمه!

قبل سنوات شاركت في رحلة الربيع، بعد رحيل أستاذي موسى، مع مجموعة من الفرنسيات ومدام زعيتر، عاشقة ارطاس المستعربة، وكأنَّها هيلما جرافنست ثانية (حجة حليمة). ترك لي العزيز فادي، الذي يتابع خطى والده، ويغمرني بحب غير مشروط، قياد تقديم مقارباتي حول المواقع التي سنمرُّ بها.

أدخلت للرحلة وادي الطواحين، المجهول والمظلوم. أعتقد أنَّ وصفه لدى صدنوق استكشاف فلسطين في سبعينات القرن التاسعع عشر، لم يكن دقيقًا. وقبل سنوات دمرَّت كسارات حجارة جزءًا من بقايا الطواحين. عنما لجأت لمسؤول في الآثار، وهو صديق عزيز حتى الآن، تجنب المواجهة وقال إنها في مناطق ج. الشغف ليس وظيفة.

حسم علاء ترددي سريعًا، عندما توقف قربي، وقال آمرًا: اطلع. الراديو ينفث الأخبار. حدثني عن أحد أشكال القمع التي يتعرض له الأسرى الآن في سجون الاحتلال. لن أذكره التزامًا بلافتة: لا تخبروا الأمهات!

نزلت في المفرق المؤدي الى مقبرة الشيهد حسين عبيات. رفضت عرضا من علاء لاكمال جميله. كبرت المقبرة، التي دفن فيها ضحية أوَّل اغتيال في الانتفاضة الثانية. عندما وصل جسد حسين، وأجساد آخرين وأخريات إلى مستشفى بيت جالا، كنت في غرفة الطواريء، وصلتها بعد سماعي خبر قصف احتلالي لمركبة في بيت ساحور، وكنا مجموعة صحفيِّين في مكتب فتح. دخل الدكتور علي عند حسين الممدد على سرير، ساعدت في نقل المصابتين، قبل استشهادهما، لاحقًا في مستشفى المقاصد بالقدس. أعلن الدكتور علي استشهاد حسين، وانطلق الرصاص الغاضب.

الغريب أنني ألقيت كلمة بائسة بصوت خفيض غير مناسب، في هذا المكان، في خيمة العزاء الضخمة، بإحراج من الدكتور علي، الذي دعاني من خلال الميكرفون، وأمام جموع غفيرة من المعزين، مشيرًا إلى مرحلة جديدة في قضيتنا، ما أكثر القضايا في قضية المراحل والانعطافات. كتبت كتابي عن الاغتيالات؛ تل أبيب لا تعرف النسيان، مع تسارع عمليات الاغتيالات ذهبت الى عمَّان صد-رد، وعرضته على ناشر فلسطينيِّ رفض تبنيه، من مثقفي منظمة: "منظمة إيه وتحرير إيه- حسب رجل أمن مصري". تبناه لاحقًا بشار شبارو في بيروت.

قبالة المقبرة، أقيمت المنطقة الصناعيَّة، قبل أيَّام أوصلني إيلي، مدير المنطقة السابق، ومدير مستشفى الجمعية العربية الحالي، إلى مفرق المقبرة. شكا إيلي من الأزمة المالية الخانقة التي تضرب بمستشفاه. السلطة الفلسطينيَّة لم تفٍ بالتزاماتها الماليَّة. خلف المنطقة الصناعيَّة، وهي نتاج تعاون فلسطيني-فرنسي، عثر على عشرات القبور التي تعود للفترة البرونزية، لولا الجانب الإيطالي لم عرفنا عنها. نشر عنها الإسرائيليون أيضًا، الجانب الفلسطينيِّ الأثريِّ الرسميِّ غارق في طوفان قلة الحيلة.

عندما وصلت مسجد بيت تعمر، الذي عدَّه علماء آثار في دولة الاحتلال، أقدم مساجد فلسطين، يعود لفترة الأسلام المبكرة في البلاد، كان الليل قد جن، مع خروج المصلين. أقلني عزيزٌ مسافة قصيرة.

أوَّل من نبهني إلى أهمية المسجد، المقام على كنيسة بيزنطية، صلاح التعمري. نظَّم مخيمًا صيفيًا أو يومًا تطوعيًا بعد عودته للبلاد، أواسط تسعينات القرن الماضي، قبل وصول الملكة دينا، التي سأختبر لاحقًا طيبتها التي تنتمي إلى ملكيَّات الحكايات، وتعاملها الابتسامي الدائم، وتجندها في حملة التبرعات لعاطف أبو عكر.

من عاطف تعلمت كيف يمكن للمرء إزدراء أسوأ أنوع الطعام، في سجن رام الله (ربيع 1981م). نقعى في ساحة الفورة، نستغل الفترة القصيرة اللمنوحة لإزدراد الطعام وإزدرائه. يضع عاطف شرائح الخبز، والبندورة، وقطعة المرجرين، وما يشبهها، في صحن، ويسكب ما يمكنه وصف بالشاي الممزوج بالكافور، مضاد الهيجان الجنسي في أمخاخ السجَّانين، على مكونات الصحن، وهات يا بلع. الاختبار أن لا يظهر المرء تعابير على وجهه، تعبِّر عن مأزقه الذوقي والبلعومي. التوسكة، والدردرة، من صرختي الأمهات: ادردا واتوسك. تُجرَّب فقط في سجون الاحتلال. الآن يحرم الأسرى من التوسكة والدردرة. لا طعام، ولا ملابس، لا قهوة ولا شاي!

قرأت كتاب الملكة دينا، الصادر عن مركز الاهرام، "بتحريض" من الثوري أبو جوزيف، الذي ستظهر الأيَّام، المدى الذي يمكن لسياسي ومثقف، الذهاب إلى أسفل درك خيانة المبادىء.

كتبت برورتريه عن صلاح، لم تنشره صحيفتي، لا أعرف السبب ولم أسأل. طلب قراءة ما كتبت، اعتذرت له. ما زال المقال موجودًا في الملف الذي يحمل اسم صلاح في ارشيفي.

نقل عبد القادر، مكتبته، من البيت العتيق، الذي طالما ضربته الرياح على تخوم بريَّة القدس، إلى منزل حداثي، مع تفصيل مكتبة خشبيَّة. قال عبد القادر، المثقف ورجل الأعمال الناشيء: مثلما فعلت أنت، غرفة نوم واحدة، وباقي المساحة للكتب.

حتَّى غرفة النوم، لا بد أن تغزوها الكتب!

عرَّفنا عبد القادر، على مكتبته، أنا وأوفى الأصدقاء؛ أبو لاوي، على فلسفته في ترتيب المكتبة. أهديته مجلدًا مصورًا بالعبرية عن واحدة من هزائم جيوش العرب، ليكون أوَّل كتاب بهذه اللغة في مكتبته، أهداني رسائل مارسيل بروست.

ما أدهشني في المكتب، الأجزاء الكاملة، لتاج العروس، في طبعتها الكويتيَّة، التي أُنجزت على مدار سنوات. ذهب عبد القادر إلى عمَّان، وجلب الموسوعة، التي كانت ملك جده، الذي عمل في المجلس الوطني للآداب في الكويت، مصححًا ومدققًا.

شغفت بتاج العروس، منذ قراءتي لكتاب صغير، صدر عن إحدى السلاسل الكويتيَّة، حوى وقائع ندوة بمناسبة استكمال تحقيق موسوعة تاج العروس.

تمنيت على أبي لاوي، مستشارنا في كتب التراث، أن يقارن بين الطبعة اللبنانيَّة الخاصة بي في عشر مجلدات، وطبعة عبد القادر النادرة، وإذا كانت طبعتي مكتملة أم لا.

عندما أنجز المرتضى الزبيدي، تاج العروس، أولم، وفي المكان، الذي يعبق بالثقافة، مواجهًا، كل الأنواء التي تضرب بريَّة القدس، أولم عبد القادر دنيسًا وسلَمُون. كانت معنا أرواح أولئك الذين مرُّوا على هذه الثقافة وما زالوا يسكنوننا. فخور، ولكن (دائمًا يوجد اللاكن) بأسلافي!

#يوميَّات_الدم-والنرجس

#تاج_العروس

#المرتضى_الزبيدي

#عبد_القادر_ذويب

#محمد_أبو_لاوي

#صلاح_التعمري

#موسى_سند

#فادي_سند

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق