أهلين

"من عرف الله سار، ومن سار طار، ومن طار حار". عجيل المقدسي.

الاثنين، 9 سبتمبر 2019

أبو مكين وغسّان..!



عندما كان عمر أبو مكين 20 عامًا، كان اسمه، أيضًا، أبو مكين، رغم أنه لم يكن متزوجًا، فالكُنَى في بلاد الكُنَى الأبوية، تخلق أحيانًا مع ولادة الشخص، أمَّا بالنسبة لأبو مكين، فإنها كُنية أقرب إلى الهمشرة.
وكان عليه أن يجرّب الاعتقال، ويحقق معه الكابتن أبو موسى، في البصّة في بيت لحم، قبل نقله إلى المسكوبية في القدس.
أعرف أبو موسى هذا، رأيته، صغيرًا، عندما صفع امرأة على وجهها في المخيم، قرب حاووز الماء. حاولت المرأة التي ترتدي الزِيّ الفلّاحي الذي ورثته من قريتها المهجرة، اللحاق بابنها الذي اعتقله أبو موسى، إلى الجيب العسكري، فصفعها.
كان أبو موسى، قصيرًا، مستفزًا، سريع الغضب، ولا يتحكم بعواطفه، بعكس ما يتوجب وجوده في رجال الشاباك.
قال لي أبو مكين: "عندما صعدت طلعة العين، توقعت أن أجدك". كان بحاجة للحديث عن الشهيد غسّان، بينما تهب نسمات خريفية علينا في ساحة المهد، مع تقدم الليل.
روى أبو مكين كيف حقق معه أبو موسى في البصّة، وسأله عن غسّان، فأنكر أنه يعرفه، فنقله إلى مسلخ المسكوبية.
لم أعرف غسّان، الذي شب في بيت لحم القديمة، ابنا للاجئين، من قرية مدمرة غرب القدس، ولكنني سمعت صراخه.
في آذار 1982م، كان صراخ غسّان، يأتينا، نحن نزلاء الزنازين، شاقا الطريق نحو سماء القدس. كان غسّان مريضًا، وبعد أن اعتقله المحتلون، وحكموا عليه بالسجن، أعادوه إلى التحقيق.
لن أنسى أبدًا ذلك الصراخ، وشكواه من معدته، وهو مشبوحًا في البرد، على رأسه كيش خيش أو أكثر، مغموس بالبول.
وصل أبو مكين إلى المسكوبية في نيسان 1982، ولم يقر بمعرفته، بصديق الصبا غسّان. وبعد أن فشل أبو موسى في كل محاولاته، قال له: سأجعلك تواجه شخصًا، وعندما يدخل لا تظهر أي انفعال ولا تتفوه بأية كلمة.
علم أبو مكين، أن أبو موسى، يريد أن يقابله مع غسّان، ليقول للأخير لاحقًا، بأن صديقه أبو مكين عرفه واعترف عليه.
وعندما دخل غسّان الغرفة، كما يتذكر أبو مكين: "كان تعبًا وأثار التعذيب واضحة عليه، فصرخت: لا أعرف هذا الشخص، فابتسم غسّان، ولمعت عيناه، وكأنّه يقدّر ما فعلته، ويشكرني. أخرج أبو موسى غسّان فورًا من الغرفة، لأنال نصيبي من الضرب".
استشهد غسّان اللحام لاحقًا، نتيجة الإهمال الطبي في سجون الاحتلال، كما حدث مع الشهيد السايح يوم أمس.
في ساحة المهد، لمعت عينا أبو مكين مجددًا، ورأيت دمعة نزلت على خده، وهو يريد أن يتأكد مني، إذا ما كان فعله لغسّان، ساعده على الصمود.
قلت، ولم يكن لدي غير ما أقوله: بلى، بالطبع، أكيد...!
وقف أبو مكين، ومضى راضيًا، ولكنني لاحظت أن كتفيه ، انحنيا، وكأنّه حمل طوال سنوات، ثقل الاحتلال عليهما. وكلماته تخترق أُذني: "الاحتلال سرق طفولتنا، والمناضلون، ذروا أحلامنا..! أين المفرّ؟".

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق