أهلين

"من عرف الله سار، ومن سار طار، ومن طار حار". عجيل المقدسي.

السبت، 13 يوليو 2019

أكفان دير البلح..رحلة مستمرة..!









في مدخل قاعة العرض الرئيسة في متحف إسرائيل، تنتصب الأكفان التي عُثر عليها بعد احتلال حزيران 1967 في مدينة دير البلح في ما أصبح يعرف بعد النكبة بقطاع غزة، وسُرقت، كما حدث مع آلاف القطع الأثرية الفلسطينية والمصرية والعربية، لتستقر أخيرًا في مدينة القُدْس، في المتحف الذي يعتبر مفخرة دولة الاحتلال الثقافية.
لا يبدي الحراس في المتحف، أية ردود أفعال، بينما أعينهم متيقظة، وهم يرون الزوّار يلتقطون الصور مع الأكفان الجاذبة للاهتمام. يبدون تراخيًا مقصودًا في تطبيق منع التصوير في المعرض، بخيلاء المنتصر، غير المبالي وغير الخائف من مواقف رافضة أو منددة بسرقة الأكفان.

قاعة العرض الرئيسة في متحف دولة الاحتلال، المقام في ضاحية الشيخ بدر، التابعة لقرية لفتا المحتلة والمهجرة منذ النكبة، هي عبارة عن قاعات متعددة، ومتداخلة تضم سبعة معارض فيها آلاف القطع الأثرية، التي عثر عليها خلال الحفريات الأثرية في فلسطين الانتدابية، وما بعد تأسيس دولة الاحتلال، وكذلك المسروقات من المتحف الفلسطيني (روكفلر) في القسم المحتل من القُدْس في حزيران 1967، إضافة إلى مصادر أخرى، فالمتحف يحوي قطعا أثرية عديدة أصلية مصرية، ويونانية وايطالية.
الأكفان المنتصبة، ترتبط باسم واحد من أبرز العسكريين في دولة الاحتلال، وهو موسى ديان، الذي عرف بسرقته للآثار الفلسطينية والعربية، ووصلت المتحف بعد وفاته بعدة سنوات، فنتيجة لضغوط الرأي العام في دولة الاحتلال، قدمت عائلته، ما عرف بـمجموعة ديان، للعرض في متحف إسرائيل تحت عنوان (عودة الإنسان إلى وطنه) ضمت نماذج مما سرقه من مختلف المناطق الفلسطينية والمصرية، ومن أبرزها الأكفان المكتشفة في دير البلح. ويتضح من عنوان عرض المجموعة التوظيف السياسي والأيديولوجي لتلك المجموعة ، ولم يكن ليمر ذلك الحدث، بدون انتقادات، ليس من الأطراف العربية التي لم تولي عملية نهب الآثار اهتمامًا يذكر، غير جعجعات موسمية، في معظم الأحيان غير مفهومة تكشف أن مطلقيها لا يعرفون شيئا عن الآثار، بل من أثريين إسرائيليين تمتعوا بقدر من الحيادية والعلمية، مثل رفقة مرخاف أمينة متحف إسرائيل السابقة، التي قالت متهكمة على الاسم الذي اختير للمجموعة "هل دير البلح وطن ديان؟ كان يجب أن تسمى المجموعة آثار الفلسطيني في وطنه".
أما اهارون كمبيسكي، وهو آثاري إسرائيلي يتمتع بقدر من الموضوعية، فقال معلقًا على ذلك: "هذا من أغرب الأمور في دولة إسرائيل، فبدلاً من أن تذهب هذه المجموعة إلى مركز الشرطة، باعتبارها مسروقات مضبوطة، ذهبت إلى متحف إسرائيل".
هذا النوع من النقاش، لا يطرح الآن حول الأكفان الصامتة، وكأنّ وجودها في متحف إسرائيل هو نهاية المطاف، ولم يطرح مثله بعد اتفاقيات أوسلو، التي احتل فيها الجانب المتعلق بالآثار موقعًا هزيلاً، وما جرى في اللقاءات التي يمكن أن تسمى تفاوضية، وهي قليلة ومتباعدة، بين الفلسطينيين والإسرائيليين، كان البحث عن مخارج كثيرة وحجج، لتظل الآثار لدى دولة الاحتلال، التي أصلاً لن تفكر بإعادتها إلى أصحابها.
الآثار التي سرقها ديان، لا تنحصر في المجموعة التي آلت إلى متحف إسرائيل فقط، وإنما يستمر الحديث عنها بين الوقت والآخر حتى الآن، عندما تصادر قطع أثرية، من مهرب يجملها إلى خارج البلاد، مثل إحباط تهريب رأس تمثال بيزنطي  من دولة الاحتلال، إلى هواة جمع الآثار في الولايات المتحدة الأميركية.
وقبل سنوات، عرضت أثار سرقها ديان، للبيع في مزاد في أميركا. وكشف صحيفة هآرتس العبرية حينها، بان المجموعة تزيد عن 165 قطعة أثرية جمعها ديان بعد الاحتلال، من بينها تابوت على شكل إنسان، استخرجه من رفح، وقناع حجري من جبل الخليل، بالإضافة إلى اكثر من 200 جرة فخارية وكؤوس ومزهريات زجاجية. وهذا يعني أن ليس كل الأكفان المسروقة من دير البلح، موجودة في متحف دولة الاحتلال.
آلت المجموعة الأثرية لديان إلى زوجته الثانية راحيل، التي باعتها للمتحف الإسرائيلي بمليون دولار، إلّا أنها أخفت قطعًا أخرى، هي التي عرضت في المزاد.
حسب هارتس فان ديان جمع خلال 30 عامًا، من خدمته العسكرية نحو ألف قطعة أثرية، كان يخفيها في بيته، واستخدم الجنود والضباط الذين تحت إمرته، لاستخراجها. وقالت الصحيفة بأن المؤسسة السياسية والقانونية في إسرائيل غضت الطرف عن نشاط ديان غير القانوني، وعندما كان يهدد أحد بتقديم شكوى ضده، كان يقول له "اذهب واشتكي للشرطة".
ديان لم يكتف بسرقة الآثار من الأراضي الفلسطينية، ولكنه تمكّن من شراء قطع أثرية من دول عربية أخرى كسوريا ولبنان، ووظف ذلك بالإضافة للمكاسب الشخصية وإشباع فضوله وهوايته، أيديولوجيًا وسياسيًا. جال ديان في مختلف المواقع الأثرية الفلسطينية التي بدت مفتوحة أمامه بعد الاحتلال، ونقب في برية القُدْس ونابلس ورام الله وبيت لحم، مسخرًا إمكانيات السلطة المحتلة الجديدة.
روى يعقوب بيري، رئيس جهاز الأمن العام الداخلي الإسرائيلي المعروف باسم (الشاباك) وهو قسم المخابرات الإسرائيلية الذي يعمل في المناطق المحتلة، في مذكراته حكاية عن ديان، عندما كان بيري مسؤولاً عن (الشاباك) في منطقة نابلس المحتلة عام 1968م، وتلقى اتصالاً من رئيسه طلب منه أن يوجد في يوم حدده، على مفترق طريق مستوطنة بيت أيل، الساعة السابعة والنصف صباحًا، دون حراس، لمقابلة موسى ديان والانصياع لأوامره. وفي المكان والزمان المحددين وصل ديان مع عشيقته راحيل، التي تزوجها بعد ذلك بسنوات، وطلب من بيري ركوب سيارته، وأخبره انه يود الذهاب إلى قرية إسكاكا، حيث أجرى حفرية أثرية في القرية الفلسطينية، وسرق ما وجده.
بعد سنوات طويلة من وفاة ديان، ما زالت الآثار التي حصل عليها بطرقٍ غير شرعيةٍ من الأراضي الفلسطينية متناثرة هنا وهناك، منها ما هو موجود في متحف إسرائيل، أو في مجموعات فردية، أو في متاحف عالمية، وربما منها ما هو معروف أي شيء عنها.
تستمر أكفان دير البلح في صمتها الطويل، وكأنّ وجودها في متحف إسرائيل، ليس إلَّا واحدة من حقب عاشتها طوال قرون طويلة، دون أن تعرف أين ستستقر في النهاية، بعيدًا عن موطنها المحتل.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق