أهلين

"من عرف الله سار، ومن سار طار، ومن طار حار". عجيل المقدسي.

الأحد، 26 أغسطس 2018

جملة معترضة: إرهابي سابق



في عام 1948 كان أوري أفنيري، الشخصية المعروفة والمركزية ضمن معسكر اليسار الصهيوني ورئيس كتلة السلام، من ضمن العصابات الصهيونية التي حاصرت وشرّدت سكان عدة قرى فلسطينية وبعد خمسين عامًا من ذلك التاريخ، الذي حفر في ذاكرة الفلسطينيين والعرب باسم النكبة، أمضى أفنيري، عطلة عيد الميلاد في مخيم الدهيشة، مع أصدقاء فلسطينيين وجدوا في المخيم نتيجة سياسة الإرهاب التي اتبعتها العصابات الصهيونية ضدهم.

التقيت أفنيري الذي قدِم مع زوجته وطرحت عليه عدة أسئلة، ربما وهي تشكّل جملة معترضة في موضوعنا عن الاغتيالات أن توضح ولو نسبياً الخلفية التي يستند إليها القادة الصهاينة في سياستهم الإرهابية ضد الشعب الفلسطيني، التي يمكن وصفها بكثير من الاطمئنان بأنه: القتل من أجل القتل..!
- سألت أفنيري : ماذا كنت تفعل عام 1948؟
- كنت جنديًا في الجيش الإسرائيلي...
- لم يكن هناك جيشًا إسرائيليًا بعد؟
- الجيش بدأ، عندما بدأت الحرب عام 1948، لم يكن جيشًا رسميًا وكان اسمه الهاجناة، وعندما أعلنت دولة إسرائيل عام 1948 أصبحت هذه الكتائب جيش الدفاع الإسرائيلي، وكنت أنا في كتيبة (جفعاتي)، عملنا على طريق القدس في قرى مثل (خلدة) و(دير محيسن)، وفي وقتٍ من الأوقات كنت قريباً من قرية (زكريا) ولكنني لم أدخل (زكريا) محاربًا.
يعتقد أفنيري بأن الحديث عن الحرب عام 1948، وما حدث فيها يستلزم ليس العودة خمسين عامًا للوراء، بل إن الواقع يستلزم العودة 120 عامًا إلى الوراء، حيث وصول أوّل دفعة من المستوطنين اليهود إلى فلسطين. ويضيف: "منذ ذلك التاريخ بدأ صراع تاريخي بين شعبين، يعتقد كلُ واحد منهما بأن الأرض ملكية لكل منهما، وهذا يختلف عن أية حرب أخرى أعرف عنها، لأنه في العادة تقع الحرب بين دولتين حول قطعة أرض، بينما الحال هنا فإن كلاً من الشعبين يدعي بأن الأرض له، وأنا كنت أعتقد بأن على الشعبين كان عليهما أن يناضلا معًا ضد الاستعمار الخارجي".
ويشير أفنيري إلى أنه عمل من أجل ذلك حركة عام 1946 أي قبل الحرب، ومن أجل ذلك أصدر أيضًا كتابًا في نهاية عام 1947 بعنوان (الحرب والسلام في المنطقة السامية) واستخدم عبارة (السامية) لأنها في رأيه هي العبارة الوحيدة التي توحّد سكان هذه الأرض، ولم يستخدم كلمة شرق.. لأنها غير مناسبة وليس لها معنى فالشرق بالنسبة لمن... ؟
ويقول، إنه أصدر، بعد تلك الحرب، كتابين أحدهما كان شعبيًا جدًا، وكان لسنوات أحد الكتب الأكثر مبيعًا في إسرائيل، أما الكتاب الثاني فهو  بعنوان (الوجه الآخر للعملة) والذي قوطع من قبل السلطة الإسرائيلية، وتحدث فيه عن الجرائم والمجازر التي وقعت خلال حرب عام 1948.
ورداً على سؤال قال أفنيري إن تلك الحرب كان لا بد منها في الصراع، ويقول إن المهم تجاوز نتائج ذلك التاريخ وإيجاد حلاً للصراع.. ! ويعتقد أفنيري بصحة موقفه في المشاركة في تلك الحرب: "كنا متأكدون في ذلك الوقت بأننا ندافع عن حياتنا، وإذا خسرنا الحرب كنا على قناعة تامة، بأننا إذا خسرنا سنُرمى خارج البلاد، لذلك كان شعارنا ليس هنالك خيار آخر".
ويقول رداً على سؤال: "كان هنالك تأثير للقوى الأجنبية لكن الصراع كان بين شعبين، حتى لو لم يكن هناك فرنسيون أو  إنجليز أو روس، الجانب اليهودي كان لديه هدفٌ واضحٌ وهو  إقامة دولة يهو دية مستقلة، وبعد الحرب العالمية الثانية التي قتل فيها 6 ملايين يهو دي، كان علينا أن نحصل على دولة يهودية مستقلة هنا".
ويضيف أفنيري: "قبل مائة عام كان اليهود أقلية، في نهاية القرن الماضي كان هنالك 50 ألف يهودي ونصف مليون فلسطيني، نحن لا نختلف على الوقائع، لكننا نختلف في تفسيرها".
ورداً على سؤال كيف يبرّر الإرهاب الصهيوني ضد الشعب الفلسطيني في تلك الحرب قال أفنيري: "الأعمال التي حدثت اعتبرت إرهابية من الجانبين، لسبب بسيط لأن كل طرف لم يكن يعترف بالآخر".
وأضاف: "من الخطأ اتهام الجانب اليهودي بارتكاب مجازر، فهناك أعمال فظيعة حدثت من الجانب الآخر، فمثلاً هنالك 35 من جنودنا قتلوا في الطريق إلى غوش عتصيون وقطعت رؤوسهم وعلقت وساروا بها معلقة في القدس، ونحن رأينا صورهم على تلك الحال، في بداية الحرب كان كل جانب مقتنع أنه إذا سيطر فيجب قتل الجميع، ما كان يحدث شبيهًا بما حدث فيما بعد، وفي هذه السنوات في البوسنة، في النهاية الذين عانوا هم الفلسطينيين لأننا كسبنا الحرب، ويجب أن لا ننسى أنه في المناطق التي كان يسيطر عليها العرب لم يبقَ أي يهو دي فيها وفي البلدة القديمة في القدس، تم إما قتل اليهو د أو  أسرهم، لقد كانت حرب قاسية بين الطرفين، عندما دخلنا الحرب كان هنالك 635 ألف يهو دي في فلسطين قتل منهم ستة آلاف يهو دي، كل أصدقائي قتلوا، كانت حربًا قاسية جدًا عنيفة من الطرفين".
وأخذ أفنيري، الذي غالط في سرد الحقائق مثل إشارته لما حدث في مستوطنات كفار عتصيون، طرف الحديث إلى جانب آخر لترسيخ ما طرحه من أفكار: "في الأوّل من أبريل عام 1948، بدأنا الهجوم لفتح الطريق إلى القدس، وكانت فرقتان من الجيش تنتظر في ميناء تل أبيب، قدوم سفينة من الاتحاد السوفيتي محملة بالأسلحة، جميع أسلحتنا جاءت من الاتحاد السوفيتي ومصنوعة في تشيكوسلوفاكيا وخلال الحرب كان الاتحاد السوفيتي يعطينا دعمًا دائمًا، ويمدّنا بالبنادق والمدافع، لأنهم اعتقدوا أن وجود دولة يهودية هنا أفضل من مستعمرة بريطانية، وحتى عام 1951 كان السوفيت يعطوننا دعمًا سياسيًا كاملاً، ولكن بعد وفاة ستالين بدأت السياسة السوفيتية تتغير لصالح العرب".
- ولكننا نعرف أن الاتحاد السوفيتي كان يحارب النشاط الصهيوني، واعتقلت القوات السوفيتية، مثلاً، مناحيم بيغن ورحّلته لسيبيريا بسبب نشاطه الصهيوني كما رواها في مذكراته.
- صحيح... ولكنهم كانوا يحاربون النشاط الصهيوني في بلادهم وليس هنا.
-سألت أفنيري: هل ارتكبت جرائم في تلك الحرب؟
- القتل محتمل جدًا، كل حرب يحدث فيها ذلك، خصوصاً وأننا كنا نحارب في الليل.
* أين حاربت؟
- قاتلت في عدة قرى من (دير محيسن) حتى (عسقلان)، وكان لوحدتي دوراً في معارك كثيرة حدثت معظمها في الليل، وأنا أصبت في تلك الحرب في منطقة (عراق المنشية) والتي اسمها اليوم (كريات غات) وكان في الجانب الآخر الرئيس عبد الناصر، وفي كتابي (إسرائيل بدون صهيونية) كتبت فصلاً عن هذا الموضوع وطلبت من صديق مشترك، هو (أريك رولو) أن يعطيه لعبد الناصر بعد أن أصبح رئيسًا، وقال عبد الناصر إن وصفي للأحداث كان صحيحًا.
*ما هو  شعورك الآن وأنت شاركت في ذلك الإرهاب ضد الشعب الفلسطيني؟
- دعنا لا نسميها إرهاباً، نسميها حربًا، حرب 1948 كانت مأساة ومحزنة جدًا ونتيجتها مازلنا نعيشها حتى الآن، ولا توجد فائدة لأيّ جانب أن يفكّر بنفس الاعتقاد لدى الطرف الآخر، والحديث عن الطرف اليهودي كعصابات من القتلة، والآن هنالك كتّاب يهو د يحكون عن العصابات العربية، يجب أن نبتعد عن هذه الكلمات، كلا الطرفين حاربا من أجل هدف.
*هل تشعر بندم على مشاركتك في تلك الحرب؟
- لا …، ولكنه من المؤسف، وبعد خمسين عامًا من الحرب، لم نضع نهاية للمأساة، مأساة اللاجئين، ويجب أن نبدأ الآن في التفكير بوضع حد لمأساة اللاجئين، ومن مضمون السلام أن نجد حلاً عادلاً وعمليًا لمأساة اللاجئين !!.... ودائمًا عندما أتقي أصدقاء من الفلسطينيين، أسألهم من أية قرى لجأو ا أو  لجأت عائلاتهم، وكثير منهم يذكرون أسماء قرى قاتلت فيها، وبالأمس سألت ساجي سلامة (المسؤول السابق في الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين) وروى لي كيف خرجوا من عسقلان، وقلت له إنني شاهدت خروجهم من على تلة قريبة، وكنت وقتها حزينًا لخروجهم، وأعتقد أن تهجير الناس كان خطأ، وأعتقد وبعد كل هذه السنوات لم نغير الماضي ولكننا نستطيع التأثير في الحاضر والمستقبل ويجب أن يكون حلٌ في هذا السلام للاجئين فلا يعقل أن نعمل سلامًا مع نصف المجتمع الفلسطيني ونترك الآخرين، الذين في الخارج بدون سلام.
أضاف أفنيري: "كان لي صديق هو  عصام السرطاوي، الذي ولد في عكا، وأرسله عرفات عام 1975 لفتح اتصالات مع الإسرائيليين، وكنا نجتمع في اجتماعات عامة في أو روبا، وكان عصام يقول دائمًا: أنا وأفنيري مخربون قدماء، نريد أن نعمل معًا سلامًا،.. في الصراع التاريخي بين الفلسطينيين والإسرائيليين، هناك صراع آخر بين معسكر السلام من الطرفين وأعداء السلام، وأنا في هذه الحرب من المعسكر الأوّل".
وسألت أفنيري: هل صداقتك مع الفلسطينيين وزياراتك لهم هي نوع من طلب المغفرة؟
- أفنيري : أعتقد أنه قبل أن نصل للسلام الحقيقي، فعلى دولة إسرائيل أن تعتذر للشعب الفلسطيني، فبينما كنا نقاتل، قمنا بعمل غير عادي ضد الفلسطينيين، فالاعتذار مهم جدًا... وشخصيًا أشعر بامتنان شديدٍ لأن يتم استقبالي في مخيم اللاجئين ولا أنسى بأنني كنت جزءًا من هذه الحرب ولديّ مشاعر عميقة اتجاه أصدقائي الفلسطينيين (!!).
*******
ولكن ما حدث للشعب الفلسطيني لا يمكن معالجته، بأي شكلٍ من أشكال المشاعر.. ! حتى لو كانت من إرهابي سابقٍ كان مقتنعًا أنه يقوم بواجبه تجاه شعبه و(وطنه)..
*الحوار مع أوري أفنيري اجريته معه في بداية عام 2000م ونشر في كتابي (كم طلقة في مسدس الموساد؟) الصادر عام 2004 في عمّان.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق