صفيّة، هي شقيقة جدي الشيخ مصطفى، وهي جدة شوقي، ووجيه، وآخرين. أذكر ملامح قليلة منها حيث حطت بها عصا الترحال الصعب والطويل في مخيم الدهيشة من قرية زكريا المزبورة، التي هُجِّرت متأخرة عن غيرها في خريف 1948م. قبل التهجير استقبلت مهجرين ومهجرات من قرى عديدة مثل خُلدة، وبيت محسير، تقاسم الجميع الماء والكلأ، قبل أن يبدأوا رحلة التَّرْحَال التي لم تنته حتى الآن.
صفيّة واحدة من خالات وجدات عديدات، نموّت في ازقة المخيم وأنا أراهن متشحات بالسواد، لا يخلعهن أبدا في حدادٍ لا ينتهي.
لجأ بعض أهالي زكريا إلى قرية سعير في جبل الخليل، ومن بينهم عائلة صفيّة وأقربائها، وهناك توفي زوجها أحمد يونس في المستشفى الفرنسي في بيت لحم، ودفن بجوار مقام النبي العيص، وهو الاسم الإسلامي لعيسو التوراتي، رمز الذكورة الطاغية، الذي سرقت منه باكورته، بحيلة دبرها شقيقه يعقوب الذي أصبح اسمه إسرائيل بعد صراع ليلي مع اله التوراة.
خط محمد الحاج عبد الفتاح علي خالد حسن أحمد عدوي، في مذكراته بقلم رصاص: "في يوم الاثنين الواقع 13 صفر سنة (...) انتقل إلى رحمة الله تعالى أحمد يونس من زكريا في مستشفى بيت لحم في باب الزقاق ثم أتوا به وشيع جثمانه في قرية سعير في جانب نبي الله العيص وقد حضره فوج من الأهالي ما ينوف على خمسمئة رجل وكان دفنه بعد غياب الشمس"
المنكوبون الأُول مثل صفيّة، عاشوا صدمة الرعب، دون أن يستوعبوا ما حدث لهم، طرد وقتل وقيام دولة اسمها إسرائيل، فلاذوا بالصمت، أمَّا الأبناء فحاولوا أن يفعلوا ما لم يفعله الكبار مثل محمد يونس (جودت) ابن صفيّة، الذي وجد نفسه، بسبب نشاطه الثوري، ولم يبلغ العشرين معتقلا في سجن الجفر الصحراوي، ولكن على الأغلب أن صفيّة، سليلة الفلاحين الذين اعتقدوا ان الحكومات الظالمة التي حكمتهم طوال قرون، ما هي إلا اختبار إلهي لصبرهم، كان لها راي آخر واعتقدت أن لديها الحل للإفراج عن ابنها أو التخفيف عنه. ويروي حفيدها رامي، انها عندما كانت تزور ابنها المعتقل السياسي كانت تضع رأسه على صدره وتحاول أن تقربه أكثر وأكثر دون أن يعلم لماذا، حيث تخبيء حجابا لعله يحميه ويخرجه مبكرًا من السجن، ولكن حيلتها لم تنفع، ولم يستجب مَن وجهت له الحجاب، فأمضى ابنها سبع سنوات عجاف في صحراء الجفر، ليعيش تشرده وشتاته الخاص وتناقضه مع وعي مجتمعه.
ورحلت صفيّة دون أن تُكحِّل عينيها برؤية زكريا مرة أخرى..!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق