عندما نظرتُ للساعة، رأيت
العقارب تشير إلى الثالثة والنصف، حاولت أن أعود إلى النوم كما أفعل دائمًا،
فالأتي أخطر. سمعتُ أصوات الجنود في الشارع الضيق غرب غرفتي، وهم يخلعون أبواب
المنازل، لم أتمكن من النوم فنهضت، نظرت من شق صغير في الشباك، بدأ الجنود بأخذ
أماكنهم على أسطح المنازل، منذ أسابيع أتأخر في النوم، انتظارا لعودتهم بعد دهم
المنزل قبل أسابيع، وها هم يصلون الحارة، هل سيدهمون المنزل هذا الفجر؟ حاولت فتح
الحاسوب لمشاهدة فيلم. نوع من التحدي لوجودهم، ولكن الأمر لم ينجح، فالضجيج الذي
يحدثونه أوقف كل شيء.
أي منزل يقصدون في
هذا الفجر؟ حاولت من خلال الشق في الشباك والصعود إلى السطح المعرفة، وتمكنت من
حدس الأسطح التي عليها القناصة. لم تمض فترة طويلة، حتى علا الضجيج ولكن في الشارع
المتسع نسبيا غرب المنزل، إنهم جيش الفتية، فتية المخيم، الذين بدأوا بتكسير الطوب
والحجارة، وصنعوا متاريس من براميل النفايات، وبدأوا رشق الحجارة على الجيش في
الطريق الأخر.
صعد فتى (تبعه فتى
أخر لاحقا) على سطح منزل عائلة أبو حمدي متعدد الطبقات، ومن موقعه تمكن من رؤية ما
يجري في غرفة الجريح أكرم الأطرش التي تُرك شباكها مفتوحا. هذا الفتى دوره، على
الأرجح كشف ما يجري والإبلاغ عن تحركات الجنود لرفاقه في الشارع، ولكن مهمته اتسعت
ليلعب دور التأثير المعنوي على جنود الاحتلال، ومنهم من يفهم العربية وبعضهم من
العرب الصهاينة الذين يتجندون في جيش الاحتلال من خلال تعليقاته اللاذعة، فعندما
رأى أحد الجنود يتحسس أرجيلة أكرم صرخ عليه بصوت مرتفع جدا:
-اترك الارجيلة يا
كلب..!
ومضى في رفع معنويات
الأهالي المحاصرين في الداخل، والنداء على أكرم، الذي تبين لاحقا بأنه لم يكن
موجودا، ليقول له بان الفتية معه.
استطعت أن أرى رغم
الظلام جنود الاحتلال وهم خائفين يتنقلون منحني الظهور خشية من كشفهم من قبل
الفتية، وحتى القناصة على الأسطح تنقلوا وهم في وضعية الانحناء، بينما الفتية في
الشارع الآخر لم يتخذوا أية احتياطات وأبرزهم الفتى الصارخ على السطح.
نزلت من سطح المنزل
إلى الشارع لأصرخ على الفتى الصارخ بان يأخذ حذره، فأجابني، بانه لا يخاف ويريد أن
يستشهد من أجل فلسطين.
قلت له بصوت مرتفع:
-نريدك أنت ورفاقك
أحياءا من أجل فلسطين..!
وتنبهت مع صوت آذان
الفجر، على ما بدا انه محاورة غريبة بين واحد مثلي يتصنع الحكمة ويلقى النصائح
وبين الفتى الذي بدا انه يواجه قدره فاردا صدره للريح.
وبعد دقائق أُطلقت
صلية مدوية من قبل القناصة، سيتبين لاحقا انها استهدفت الفتى الصارخ في فجر
المخيم، وتركت أثرها، سبع رصاصات على الأقل على الجدار المرتفع، ولكن الفتى نجا
ليعود ليصرخ من جديد:
-يا كلب اخرج من غرفة
أكرم..!
-يا كلب اخرج الكلب
من غرفة أكرم..!
وهكذا بدأت سلسلة من
الأقوال الساخرة من جنود الاحتلال ومن مسؤول المخابرات، بينما يستمر إلقاء
الحجارة.
فشل الجنود بقيادة
مسؤول المخابرات الذي يحمل الاسم الكودي نضال ( يا له من اسم) باعتقال أكرم الذي
تعرض لإصابة قاتلة سابقا ونجا بعد علاج صعب.
يستهدف الفتى الصارخ
مسؤول المخابرات، ويعيره بفشله:
-نضضضال وينه أكرم؟
هههههه أكرم بومببببببببب..!
-وين على عوفر..وين
على عوفر..(على نغمة وين ع رام الله)
اعتقل الكابتن نضال،
رامي، ابن عم أكرم، كرهينة، حتى يسلم أكرم نفسه لسلطات الاحتلال، مهددا باغتياله
إذا لم يسلم نفسه.
جميع السُلطات التي
حكمت الفلسطينيين، استخدمت أسلوب أخذ الرهائن هذا، من أنظمة الخلافة الإقطاعية،
إلى الإمبراطورية البريطانية العظمى، والأنظمة الملكية الرجعية، والاحتلال
الإسرائيلي الذي طالما تفاخر في السبعينات والثمانينات بأنه "احتلال
ليبرالي" حتى السُلطات الاسمية الوطنية والإسلامية.
تراجع جنود الاحتلال
ولحق بهم جيش من الفتية ربما نحو 400 فتى، وأزال آخرون المتاريس، تاركين تنظيف
الشوارع من الحجارة إلى وقت لاحق، وبدأ الظلام ينقشع، والمطاردين لجيش الاحتلال
الذي فشل في الاقتحامات السابقة باعتقالهم بالعودة إلى منازلهم، وأنا بعد
الاطمئنان على ما جرى للجيران، وتبادل الحديث حول ما جرى وما سيجري، والد أكرم كان
في غرفة الأشبال في معتقل المسكوبية في عام 1982م عندما دخلت المعتقل، وعمه فؤاد
ذاق العذاب المر بالبكرة في معتقل الفارعة العسكري، و...و...وبعدين يا أصحاب، إلى
أين المسير؟؟
مشيت إلى بيت لحم،
إلى مخبز السالزيان، متشمما رائحة ألذ خبز في الدنيا، متنفسا نسمات صباح جديد.
وأكرم خضع اليوم
لعملية جراحية، والكابتن نضال سينتهز الفرصة للقبض عليه بأسرع وقت، والمخيم على
موعدٍ جديد مع معركة جديدة، وفجر جديد..!
الغار لمستحقيه
والعار لأهله..!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق