أهلين

"من عرف الله سار، ومن سار طار، ومن طار حار". عجيل المقدسي.

الاثنين، 21 أغسطس 2023

..وأيضًا عن أُفول اليسار الراديكالي!



 


يسعى أكرم عطا الله العيسة، في كتابه الاوبتغرافي عن تجربته الاعتقالية المديدة، لاستعادة ما وصفها الذاكرة المسلوبة، وهو ما يظهر في عنوان الكتاب الصادر، مؤخرًا، عن مكتبة كل شيء في حيفا: الذاكرة المسلوبة أيَّام في سجون الاحتلال الإسرائيليِّ.

يسجِّل العيسة، شذرات من تجربته الاعتقالية بعد أكثر من أربعين عامًا من وقوعها، وبعضها أكثر من ذلك. يفسِّر العيسة اقدامه على رواية تجربته عن الاعتقال، بأسبابٍ وطنيَّة، بل إنَّه يشعر أن عدم تسجيلها يعتبر: "تقصير وطني ونضالي اتجاه قضيتنا الفلسطينيَّة". لكن هذا وحده، لا يفسر الأمر، فالكتابة، يمكن أن تكون أيضًا وسيلة للشفاء، حسب حوار بيني والكاتب (18 آب 2023م).

 أظن أنَّ "الوطنيَّة" فقط، وأقصد الدافع الوطنيِّ، قد يكون وصفة لافساد الكتابة، باعتبارها فعل مستقل، الذات تعلو على الوطنية، ولا يكون الوطن، وطنًا، إن لم يكن ذواتًا. الوطن إن لم يكن هو الإنسان، فهو مصطلح غائم. والذات الكاتبة أكثر صدقًا، وأقل شبهة الوقوع في الشعاراتية، وهو ما نجا منه العيسة، الذي قدَّم ما يضيف فعلًا إلى المدونة الفلسطينيِّة الاعتقالية، وهي فقيرة، بشكلٍ مؤسف، مقارنة مع مدونات أخرى، كتجارب الاعتقال السياسي في سوريا مثلًا، أو مصر خصوصًا إبَّان الحكم الناصري.

ظهور كتاب العيسة، في وقتٍ متأخر عن الأحداث التي وقعت فيها، يفسره أيضًا حضور السجن بشكل مكثف ومؤثر، في حيوات الأسرى السابقين، مع التقدم في العمر. أخبرني العيسة: "إن موضوع السجن حاضر دائم في اللقاءات مع الأصدقاء"، وأيضًا أن ما يمكن أن يُذكر في البوح عنه في التجرية الاعتقالية، لم يكن يمكن تدوينه في سنوات الجمر تلك، كما أخبرني العيسة. وهو ما ما حدث برأي لدى آخرين مثل عائشة عودة التي قدمت تجربتها في كتابين على الأقل، ومع كاتب هذه السطور في رواية المسكوبية. لم تكن الكتابة عن تجارب سابقة دافعه فقط الحاجة لمسافة بين الواقع، والكتابة، لكنَّه انتظار لخرق المسكوت عنه.

لكن البوح الشخصي في كتاب العيسة ليس كثيرًا، وفرملته رقابته الداخلية، وكونه ما زال ناشطًا سياسيًا، يرتبط بعلاقات مع أشخاص من القوى السياسية المختلفة، ومع ذلك فإن بوحه بمشاعره الشخصية، منح الكتابة، ألقًا.

لم يتبع العيسة ترتيبًا معينًا لشذراته التذكرية، ففي نهاية الكتاب مثلًا، يتحدَّث عن تجربته الاعتقالية الأولى في عام 1976م، ولكن يمكن وضع عنوانين عريضين للشذرات، الثاني من حيث الترتيب الزمني، هو النشاط في الانتفاضة الأولى، وهو ما يحتل القسم الأوَّل من الكتاب، وتجربة الاعتقال في معتقلات الاحتلال العسكرية: الظاهرية؛ والنقب؛ والفارعة؛ وغيرها، والأوَّل من حيث الترتيب الزمني، تجربة الاعتقال، خلال نشاط الحركة الطلابية الفوّار في الجامعات الفلسطينيَّة، خصوصًا جامعة بيت لحم، والتي ترأس العيسة مجلس اتحاد طلبتها وعلم بفوزه وهو في معتقل المسكوبية بالقدس، مشبوحًا مع آخرين من قادة الحركة الطلابية.

يقدِّم العيسة شهادة مهمة ومؤلمة عن القمع الاحتلالي لنشطاء الانتفاضة الأولى، وظروف الاعتقال في المعتقلات العسكرية، ويحاول ايراد ما خزنته الذاكرة من أسماء رفاق الاعتقال، مدفوعًا بحسّ التأريخ، والسيطرة على صهوة الذاكرة المسلوبة، ويمكن لمن يعرف الأسماء أن يقارن بين ما ضحاه هؤلاء، وما أصبحوا عليه لاحقًا، وبين البذر والحصاد المرّ.

لم يهدف العيسة، لتقديم قراءة نقدية للتجربة التنظيمية والنضالية التي عاشها في صفوف اليسار الراديكالي، ولكن يمكن العثور على اشارة دالة في نهاية واحدة من الشذرات: "لم يكن هناك أوسلو التي ضيعت المفاهيم والمسلمات".

أعتقد أنَّ تجربة الحركة الطلابية الفلسطينية في ثمانينات القرن الماضي، التي لعب العيسة أدوارًا فيها، كانت تحتاج إلى أكثر من عرض ما عاناه ناشطوها في سجون الاحتلال، فهي تحتاج إلى تذكرات أوسع، وبوح أكثر، وتفاصيل، ومجهر نقدي، وهو ما آمل أن يضطلع به العيسة قريبًا.

ما كتبه العيسة، لا يؤشر فقط إلى مرحلة صعود اليسار الراديكالي، ولكن أيضًا، إلى أُفوله، فمن يستعرض بعض الأسماء من رموز رفاق العيسة في السجون، ويعرف ما آلت خياراتهم، القهرية أو القدرية، أو النفعية، يدرك مقدار ذلك الأفول، وما يخفيه رماد نائرة الصمود في باستيلات الاحتلال.

#الذاكرة_المسلوبة

#أكرم_عطا الله_العيسة

#عائشة_عودة


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق