أهلين

"من عرف الله سار، ومن سار طار، ومن طار حار". عجيل المقدسي.

السبت، 23 نوفمبر 2019

مجنون الصلاة..!






كان رئيف، مجنونًا رسميّاً، مقيمًا في الدير بشكلٍ دائم، ولكنّه لم يشأ إسقاط فرض الصلاة عنه، ولم يكن ممتنًا للمكرمة السماوية التي أعفته وغيره من المجانين من مشاق العبادات. أراد، يحدوه حسّ عال بالمساواة، والعدالة، أن يكون المجانين مثل العقلاء، لا فرق بينهما إلّا بالتقوى، يقدّسون اسمه، في الأرض، كما في السماء، لا يعلو أحدٌ على أحدٍ.
لم يكن رئيف ليصلي أمام زملائه المجانين، الغاضبين، من توريطه لهم في أمورٍ، اعتبروها حقا مكتسبًا، في أن لا يكونوا مثل العقلاء، بإسقاط الفروض عنهم، وهو ما جعلهم يشعرون بالتميّز، عن أمثالهم من العقلاء، كالأطباء والممرضين وعمال الصيانة والطباخين والحراس وأمناء المخازن والبستانيين وغيرهم، الذين يحرصون على أداء الصلوات في مواعيدها، وبشكلٍ مبالغٍ به، في معظم الأحيان، كالإطالة في الصلاة وقبل ذلك في الوضوء، والذهاب إلى الحمامات، وإن أدى ذلك إلى تأخير واجباتهم العملية تجاه المجانين.
يرى المجانين، المصلين، وهم يحملون الأباريق البلاستيكية، التي منحها لهم أبو اسكندر صاحب مصنع البلاستيك، وهم يتمخطرون بتؤدة إلى دورات المياه، تحضيرًا للصلاة، ويعلمون أن هذه الأباريق هي جزء من الرشى التي يمنحها أبو اسكندر للمصلين، شكرًا لهم، لحرصهم على توفير عمالة رخيصة له من المجانين، الذين يتقاضون رواتبهم الهزيلة، على شكل سجائر من النوع الرخيص، ولكنّها بالنسبة لهم كافية لتحفيز جين الجنون وإسعاده.
لم تسجل إلَّا حالات تذمر قليلة من المجانين، تجاه سلوك العقلاء، الّذي بدا وكأنَّ صلاتهم ليست إجراءً عمليًا وامتنانًا للسماء، وإنما طقوسًا، أهم ما فيها أنها تأخذ وقتًا، وتجعلهم يسترخون.
ينتحي رئيف مكانًا قصيًا بين أشجار الصنوبر الضخمة التي زرعت قبل أكثر من قرن، لاستقبال القيصر الألماني الّذي جاء فاتحا وممولاً لميتم الأيتام، قبل أن يحوّله الإنجليز، إلى ديرٍ للمجانين.
يعرف أولاد حارة الدير، مواعيد صلوات رئيف مثله تمامًا، فيتسلقون السور المرتفع، ويطلّون عليه، فقط ليضاحكونه، ويسألونه: لماذا لا يتجه بصلاته، مثلما يفعل العقلاء، ناحية الكعبة، فيجيبهم، الجواب الخالد، بعد أن ينهي صلاته، ويجلس على سجادته المهترئة، التي سرقها أحد الأولاد من منزله، وقدمهت باسم الأولاد إلى رئيف، بأنَّ كل الجهات، جهات الله، فكيف يمكن للإله أن يفضل جهة، من جهاته، على الأخرى؟
كبر الأولاد، وهم يتندرون دائمًا بنوادر رئيف ورفاقه، إلَّا أنَّ واحدًا منهم، وقد أصبح يؤذن في المسجد الّذي بُني في الحارة، من أموال تاجر خضار، في السوق المركزية، التي بناها رئيس بلدية كاره للمجانين، على أرض سلخها من الدير، اعتقد أن من مهام وظيفته، مراقبة الطرق الصحيحة للصلاة.
ابتدأ الولد الّذي أصبح شيخًا، وعاد من رحلاته الكثيرة إلى العمرة والحج، بأقراصٍ، تبين الطرق الصحيحة للحج، وهاله أنّه اكتشف خلال لقائه بجماعات دينية هناك تعلم الدين الصحيح، أنَّ الجميع في فلسطين لا يصلّون بالطريقة الصحيحة، وأنَّ عليهم، أنّ يغيّروا طريقة الوقوف والانحناء والركوع والسجود، علَّ الله، يغفر لهم، وإن كان ذلك غير مؤكد.
لم يهتم كثيرون بالولد الّذي أصبح شيخًا، ولا بأقراصه التي كان يوزعها كهدايا عودته من الديار الحجازية، فتذكّر رئيف، فذهب كما كان يفعل وهو طفل، وتسلق السور، ولكن هذه المرة بصعوبة، بسبب جلبابه الأبيض، غير المناسب لولدنات الطفولة، وعندما رأى رئيف، يفرش السجادة ذاتها، ويتجه عكس القبلة ليصلّي، صرخ عليه:
*أيها المضل، ألا تعرف كيف يصلّي المسلمون، لم يعاقبنا الله، إلَّا بسبب أمثالك؟
لم يلتفت رئيف للصارخ، وهناك احتمال أنّه عرفه وميّزه من صوته، وأجاب وهو يستعد للصلاة، مستظلاً بظلال الصنوبر:
-أنا مجنون أُصلّي بعكس العقلاء، وعندما يعاقبني الله، ويمنّ عليَّ بعقلٍ مثل عقولكم، سأصلّي مثلكم..!
لم تعجب إجابة رئيف، الولد الّذي نسي ولدنته القديمة، فاستمر بالصراخ. انحنى رئيف دون أن ينظر إليه، والتقط صرارة عن الأرض، وطيّرها، بعزمه، تجاه الصوت المزعج، وعاد لصلاته.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق