أهلين

"من عرف الله سار، ومن سار طار، ومن طار حار". عجيل المقدسي.

الثلاثاء، 26 نوفمبر 2019

عن الكنعانية..!



اقتحمت قوات الاحتلال، يوم أمس قرية بتير، جنوب القدس، المدرجة على قائمة التراث العالمي التابعة لليونسكو، وهدمت مقهى في خربة اليهود في القرية.
يسمي النَّاس الخربة، خربة اليهود، وهو أمر عادي في فلسطين، ففيها مثلاً قصر اليهود، والحجر اليهودي، وقرية اليهودية (التي ستغير اسمها إلى العباسية استجابة لتحديات الغزوة الصهيونية)، ولكن ذلك لم ينجيها من التدمير والتهجير.
قبل سنوات، وصلت الخربة، لتغطية حفريات غير شرعية لسلطة آثار دولة الاحتلال فيها، وحينها قال لي المشرف على الحفريات، بكل ثقة بأنهم يسمونها خربة بيتار.
التفكير بتطور الاسم القديم بيتار إلى بتير، هو ضرب من الخيانة، فيأتي من يقدم تفسيرًا لاسم بتير، باعتباره بيت الطير. عملية نموذجية، لمراكمة رموز فلسطينية، تستجيب للهوية الفلسطينية-العربية.
لاحظت أنَّ البعض كتب أمس، بان الاقتحام استهدف خربة الكنعانية. الأمر واضح هنا، في مواجهة إجراء لاحتلال يحمل الصبغة اليهودية، فإنَّ الرد الوطني عليه، بتزييف اسم الخربة لتصبح كنعانية.
لماذا عندما يُقدم مصريون أنفسهم باعتبارهم فراعنة، يواجهون تهمًا أقلها بأنهم ضد العروبة؟ ولماذا عندما يُقدم لبنانيون أنفسهم بأنهم فينيقيون، يواجهون تهمًا أقلها الانعزالية؟ والأمر نفسه ينطبق على مبادرات لمارونيين فلسطينيين لإعادة تبني الهوية الآرامية. اتهمهم البعض بالخيانة.
أمّا بالنسبة للفلسطينيين، فإن الكنعانية، هي التعبير الأصفى عن الهوية..! ومع ذلك لم نجد في التعبيرات الكفاحية عن الهوية الفلسطينية المعاصرة من يقدم نفسه، مثلاً باسم حركة تحرير كنعان، أو الجبهة الشعبية لتحرير كنعان.
يقدم الإسرائيليون، العصور البرونزية في فلسطين، بدون أي سند علمي، بأنها العصور الكنعانية، فيما العصور الحديدية، باعتبارها العصور الإسرائيلية، وهو ما يواجهه علماء الآثار المتحررين من سيطرة الكتاب المقدس.
تبني هوية كنعانية من قبل الفلسطينيين، هو في الواقع تبني لمفاهيم إسرائيلية-صهيونية. لم تشهد فلسطين، في تاريخها، فهمًا اثنيًا-قوميًا للهوية، فهي بلد متعدد الثقافات، وستظل كذلك، فلم تكن عربية منذ فجر التاريخ، وليس شرطًا أن تظل كذلك حتى نهاية التاريخ، والأمر ينطبق على المصطلح الشعبوي (الكنعانية)، ما نعرفه عن هذه الفترة، هو في الواقع، ما جاء به أساسًا العهد القديم، وكما نعرف الآن، أكثر من أي وقت مضى، بأنه ليس كتابًا في التاريخ.
ما المزعج في الهوية الفلسطينية، لاستبدالها بهوية طوباوية، لا أساس لها؟
خربة اليهود في بتير، اسمها الفلسطيني خربة اليهود، ووصفها بالخربة الكنعانية، لمواجهة يهود جدد، هو استجابة لمفاهيمهم عن تاريخ هذه البلاد.
يشكك الآثاريون النقديون في إمكانية تحديد عرق واحد في الفترتين البرونزية والحديدية، أو لغة واحدة، وحتى ثقافة واحدة.
في عرض إبداعي لمؤسسة إبداع، سيبدأ جولته العالمية في النمسا، يحاكي كفاح الشعب الفلسطيني، خلال القرن العشرين، الذي تبلورت فيه أكثر من أي وقت مضى الهوية الفلسطينية كما نعرفها الآن، يسميه مبدعو العمل كنعان، استعارة من العهد القديم، ويقدمونه تحت شعار (ستبقى فلسطين كنعانية إلى الأبد).
لماذا كنعانية؟ وليست هلنستية، أو امورية، أو بيزنطية، أو عربية؟ ولماذا إلى الأبد؟
الخبر غير السار، للفلسطينيين والإسرائيليين، الذين يؤبدون شعاراتهم، بأنَّ الأبد لا يعمل موظفًا لدى أي منهم. الهويات في الواقع، لا تورث ولكنها تُبنى، وهي تفعل ذلك، تُخترع وتعيد إنتاج رموزها. الهويات ليست معلبات مجمدة تحفظ في البرادات.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق