أهلين

"من عرف الله سار، ومن سار طار، ومن طار حار". عجيل المقدسي.

الأحد، 15 أبريل 2018

الحجر الفلسطيني: تاريخ وفن وسلطة














يبدي جورج أنسطاس، حماسة للحجر الفلسطيني، وتاريخه وتطورات استخدامه، وسعى خلال السنوات الماضية، من خلال دراسات ميدانية، لاثبات مجموعة من الأطروحات حول تاريخ الحجر الفلسطيني، أهمها ارتباطه بالسلطة والقوة.
عمارة للحاكم وأخرى للمحكوم
أنسطاس هو سليل عائلة عملت في نحت الحجر، وهو مثّال وباحث، صمم ونحت عدة تماثيل، وعمل في الأردن وفلسطين في نحت الحجر لمتطلبات دور العبادة كالكنائس، والمنازل، وقصور السياسيين.
يقول أنسطاس: "في فلسطين وجدت دائما عمارة للحاكم وأخرى لعامة الشعب، فلو أخذنا مثالا قصر هشام في خربة المفجر في أريحا، فهو يجسد بناء تقوم به الدولة، ولكن هذا النمط من البناء لم ينعكس على البناء الشعبي في فلسطين".
ويضيف: "استخدم شعبنا الحجارة البسيطة، التي كانت تؤخذ كما هي من موقع السكن أو من مكان قريب منه، خصوصا الحجارة التي كانت تتساقط بفعل عامل الطبيعة، ويتم استخدامها في البناء، وتشهد المنازل القروية على ذلك، والتي كانت تلبي احتياجات سكانها الذين يعتمدون على اقتصاد زراعي غير معقد".

ويرى أنسطاس، بان الدول التي حكمت فلسطين، اعتبرت العمارة جزءًا من السلطة والقوة التي تتمتع بها، ونظرت إلى الأدوات التي استخدمت لقطع الحجر وإعداده للبناء، كثروة خاصة بها، ورمزا للدولة وهويتها العمرانية.
ويقول: "لو عدنا للوراء وأمعنا النظر في الفترات السابقة التي خضعت فيها فلسطين لسلطة إمبراطوريات ودول، كالإمبراطورية الرومانية، فسنجد بان الرومان جلبوا أدواتهم التي يجب أن تكون أقوي من الحجر حتى تتغلب عليه وتطوعه وتشكله، كانت بحاجة إلى المعدن القادر على ذلك، وهو الفولاذ وكذلك النار، لم يتوفر الفولاذ في بلادنا، ولو توفر، فانه يحتاج إلى النار القوية، والتي تتمثل بالفحم الحجري".
ويضيف: "المحتل كالرومان، يأتي إلى بلادنا ومعه أدواته القادرة على قهر الحجر، وإعداده لتشييد البنايات التي تشكل رموزًا للإمبراطورية، وعندما يعود المحتل إلى بلاده، يأخذ أدواته معه، ومن هنا يمكن أن نفهم لماذا لم يتم الاستفادة من التقنيات الدول التي حكمت فلسطين في العمارة الشعبية".
وحتى بالنسبة للعمارة في الريف الفلسطيني، يميز أنسطاس بين القلاع التي بناها الإقطاعيون فيما يعرف بقرى الكراسي، كقلعة أل جرار في صانور، أو قلعة أل سمحان في رأس كركر، وغيرها، وبين منازل عامة الناس التي شيدوها من مواد أولية والشيد (الكلس) الذي يصنع محليا فيما يعرف باللتون أو الكبارة، حيث كانت تشترك أكثر من عائلة في صهر الحجر في مصانع الشيد التقليدية هذه.
رياح الحرب تضرب الحجر
يرى أنسطاس بان لنتائج حرب القرم التي اندلعت بين الإمبراطورية الروسية والدولة العثمانية في 4 أكتوبر 1853، واستمرت حتى 1856م، دورًا مهمًا على تطور صناعة الحجر الفلسطيني.
انتهت الحرب بتوقيع اتفاقية باريس، التي فتحت المجال لروسيا للبناء في الأرض المقدسة، ومن ثم لغيرها من الإرساليات الأجنبية، وخلال فترة لاحقة نفذ صندوق استكشاف فلسطين البريطاني مسوحات شملت تضاريس فلسطين، ومواقع الحجر الفلسطيني.
يقول أنسطاس: "من محطات البناء الأولى للأوروبيين في القدس، هي بطريركية اللاتين، جاء المهندسون الأجانب بمخططاتهم، ولديهم فكرة عن مواقع الحجر في فلسطين، وتعاونوا مع المواطنين المحليين، لجلب الحجر وتسويته وفقا لمقاييس معينة، وجذبت هذه الصناعة أعدادًا كبيرة من القرويين الذين كانوا يعملون في الزراعة بشكل موسمي، ويعانون من بطالة نسبية، حيث كانت النساء تطلع بدور أكبر من الرجال في الدورة الزراعية، ووجدوا في ورشات البناء الأجنبية التي شهدت انتشارا، فرصة للعمل وتعلم مهنة، وتغيير النظرة للحجر، ففي السابق لم يكن الفلاح بحاجة لجلب الحجر من الخارج، ولكنه وجد نفسه في معمعان طريقة جديدة لمعالجة الحجر".
واتخذ أنسطاس، كما يقول من دير الكرمل في بيت لحم، نموذجا على البناء المثالي المكتمل للبعثات التبشيرية، والذي أصبح يُقلَد.
يقول أنسطاس: "دير الكرمل بني عام 1888، ويشبه قلعة مار أنجيلو في روما ويقع في الجزء الجنوبي الغربي من مدينة بيت لحم، وتم بنائه على مرحلتين، ولفت نظري اسم المهندس مثبت على جدار الدير، ومن دراستي التحليلية للبناء، فانه اعتمد على رؤية معينة في الشكل النهائي، فنرى مثلا مزاريب الماء التي تصب في الآبار، والتي بنيت قبل بناء الدير، لقد كان للمهندس معرفة من أين ستأتي المياه والى أين ستصب، لقد كان يعتمد على مخطط هندسي".
ويضيف: "عندما تم بناء الدير لم يكن هناك مكننة أو مناشير آلية يدوية، ومع ذلك تم بناء الدير بحجارة أبعاد الواحدة منها 80X80X60، ولو نظرنا إلى الشبابيك المتناسقة لوجدنها خمسين شباك، كل شباك له زاويتان، وهذا يعني مائة حجر جميعها متشابهة، تم إعدادها بدون أدوات مساعدة كالتي نعرفها الآن، ومن الواضح أن ذلك أخذ وقتا طويلا".
وما لفت نظر أنسطاس كما يقول: هذا العمل المتكرر لتشكيل الحجر بشكل دقيق، وأعتقد ان العامل يحتاج لنحو 20-25 يوما، لإنهاء حجر مكعب، يبدأ من القطعة الخام حتى الحجر الذي يوافق عليه المراقب، وهو صلة الوصل بين العمال والمهندس، صاحب الرؤية، وعليه أن يتأكد من المقاسات وتولي التنسيق والتوزيع الهرموني بين العمال، والتيقن من الحجر المنتج الذي يحقق الرؤية،  وإذا كان عدد العمال ما بين 20 إلى 50 عاملاً، يعملون على تشكيل الحجر وفق رؤية المهندس، بعد أن يستلموا الحجر خاما، الذي يأتي من المحاجر، فنحن أمام تدريب أيضًا على العمل الجماعي، وروح الفريق والالتزام بمخطط".
ويعلي أنسطاس من أهمية المراقب-الوسيط بين العمال والمهندس، ويصفه بأنه مراقب الجودة، الذي يتوجب عليه أن يدقق في كل حجر ويوافق عليه، أو يطلب من الدَقّيق أن ينجز هذا التفصيل أو ذاك، وقد يطلب منه أن يعيد النظر في عمله أكثر من مرة، وهذا أدى بشكل غير مباشر إلى رفع المستوى المهني للعمال ومهارتهم.
ويقول أنسطاس، بان كل ورشة عمل كانت تستوعب نحو 50 عاملاً، يعملون ضمن نظام من التوزيع المهني القائم على فكرة فريق العمل، ومع وجود أكثر من ورشة في الوقت ذاته (ما بين 60-70 ورشة عمل)، فانه أضحى في فلسطين وفرة من العمال المهرة، وحسب إحصائية توفرت لأنسطاس فانه في عام 1905م، وِجد نحو ألف شخص يعملون في صناعة الحجر في منطقة بيت لحم.
ونشّطت فورة البناء، بعض المهن البسيطة التي تخدم الحجر، كمهنة الحدادة، التي استفادت من مواد أدخلها الفرنسيون، كآلة نفخ الهواء التي يسميها الحدادون (تشور)، وهي في الأصل (كور) أي قلب بالفرنسية، لان آلة النفخ هذه تعمل مثل القلب.
بناء القصور المحلية
يقول أنسطاس: "مع انتهاء موجة بناء الإرساليات والأديرة، أصبح هناك فائض في العمالة التي تملك مهارة تقنيات البناء، ومع عودة أصحاب الأموال المحليين من دول الاغتراب، بدأت موجة بناء قصور لهم، اضطلع بها العمال المحليون، فبنيت الربع الأول من القرن العشرين قصور عديدة، كقصر سليمان جاسر الذي كان مقيما في فرنسا، وقصور شهوان، والقواس، وهرماس وغيرها".
ونقل المهنيون تقنياتهم للمقابر، كما يقول أنسطاس: "عندما درست مقابر مسيحية في بيت لحم، لاحظت روعة البناء واللمسات الفنية، فالقبر يحتاج إلى غطاء، وتم ذلك بوضع بلاطات طول الواحدة منها نحو مترين وسمك 12 سم، كانت البلاطة تقص يدويا، وتنقش عليها الكلمات والرسوم، واستطعت الربط بين هذه التقنيات وتلك التي استخدمت في دير الكرمل، مما يؤكد بان العمال المهنيين عندما انتهى العمل في الأديرة، سخّروا ما تعلموه عندما عملوا لحسابهم الخاص".
ويضيف: "الصخور التي تقتلع من المحاجر هي أنواع، فمنها الأبيض والأحمر والأزرق، ومن الحجر الشائع الأبيض المزي، وهو متعدد التكوينات (البنود) حسب السمك فمنه 8 سم، و15 سم، و20 سم، وحتى 40 سم، وكل حجم له استخدامات خاصة فسمك أل 12 سم كان يستخدم للشبابيك، وسمك أل 25 استخدم لعتبات البيوت، وسمي "بِند العتبة" ، ونرى في معظم البيوت قوس دائري يعلو الباب وأسفل القوس عتبة مكونة من قطعة واحدة دقت واعدت بمهارة عالية، والأمر أيضا ينسحب على الدرج، فكل درجة مكونة من قطعة واحدة، والان هذا النوع من التقنيات غير موجود".
ومن خلال دراسته لمنازل في محافظة بيت لحم لاحظ أنسطاس أن نمط البناء نقل عما كان يعمل من تفاصيل في دير الكرمل، ويقول: "دير الكرمل كان المدرسة المهنية التي خرجت المهنيين الذين أصبحوا لاحقا يعملون لحسابهم الخاص، ومن هذه التقنيات ما يسمى "الكنط الهرمي" أي تشكيل الحجر بشكل هرمي، ووجدت هذا النمط في بيوت بنيت بعد سنوات من الانتهاء من بناء دير الكرمل، ولكن ليس بنفس جودة ما هو موجود في الدير، وهذا يعني غياب لدور مراقب الجودة، الذي تم الاستغناء عن دوره في بناء المنازل الخاصة".
وفي مقارنة ما بين المنازل التي بنيت خلال فترة طويلة، وجد أنسطاس ان المنازل التي بينت ما بين عامي 1890 حتى 1920 تُمثل على رسم بياني صعودا إلى الأعلى من حيث مقياس الجودة، والمهارات، ثم يستمر الرسم البياني في خط مستقيم حتى عام 1930 ثم يهبط حتى سنوات الأربعينات، وهذا يعني أن جيل العمالة التي تملك المهارات قد اختفى أو انقرض، ومعه ذهب نمط من البناء، ولم يتم إعداد جيل آخر لذا يمكن ملاحظة هبوط المستوى بشكل مريع وهذا يمكن لمسه في تفاصيل معمارية مهمة في البناء مثل الشبابيك والأبواب والأقواس وباقي التفاصيل  المعمارية.
هوية وسلطة
يؤكد أنسطاس بان الحجر وتطوره يعبر عن هوية شعبنا، وفي الوقت ذاته يؤكد على نظرة الدول الحاكمة، بأنه سلطة وقوة.
يقول أنسطاس: "سنجد في القدس نمط بناء مملوكي متقدم، ولكن مع انتهاء حكمهم، انتهى هذا النمط ولم يتم الاستفادة منه شعبيا، وسنجد في بناء كنيسة المهد حجارة محلية شُكلت بشكل بديع كالعمدان التي قصت من محاجر إصّلَيّب الأحمر ووضعت في قاعة ما بين العمدان، لقد تم القطع والنقل والتشكيل بمعدات الدولة البيزنطية والتي مثلت رموزا للسيطرة والقوة والعظمة، وكما حدث مع الرومان، والمماليك، وغيرهما حدث مع البيزنطيين؛ لقد أخذوا معداتهم معهم، ولو بقيت مثلاً تقنيات صناعة العمدان العظيمة كعمدان كنيسة المهد، لحدث تطور كبير في صناعة الحجر الفلسطينية، والاستفادة من ذلك في العمارة الشعبية".
ولكن هذا، للأسف، لم يحدث..!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق