أهلين

"من عرف الله سار، ومن سار طار، ومن طار حار". عجيل المقدسي.

السبت، 9 مارس 2024

"رواية نبيلة" ولكن/ يوسف حطيني


 


(1)

رواية "سماء القدس السابعة رواية نبيلة"، تقدّم حكاية مختصرة لشخصياتها الحكائية، بينما تمدّ جذوراً ضاربة في أعماق التاريخ إلى القدس، بكثير من الاستفاضة، تحكي حكاية المهزوم المأزوم الذي يستعين بالجغرافيا التاريخية في مواجهة منتصر متفوق يغتصب الحق ويزور المكان ويرقّع سمعته بالانتساب إلى آثارها ونقوشها. إنها رواية تحتفل بالمكان، وتدعونا من خلال حكايتها المبتسرة إلى مراجعة المسلّمات، ونفض الشعارات التي أثقلت كاهلنا، كما تستحثنا على الانتقال للفعل الثوري الذي سُجن والد السارد من أجله، حتى لا يُستشهد موسى مرتين، وحتى نكون جديرين بالانتماء إلى سماوات القدس.

هي رواية نبيلة إذن، لكنّ نبل المقصد لا يكفي وحده لإنتاج رواية متفوقة، ونحن نحاول في هذه السطور إبداء وجهة نظر نقدية، تسعى إلى أن تكون محايدة، حول رواية يمس موضوعها شغاف القلب، ويَدخله من مدخل الهوية الوطنية والحضارية التي يسعى أسامة العيسة إلى تحقيقها، في ظلّ صراع لا يرحم مع مزوّري التاريخ والآثار ووجه الحضارة.

(2)

تتشكل الرواية من ثلاثة أسفار، أولها: "سفر للحياة"، وهو سفر تبدأ حكايته من ذروة مشوّقة للقارئ، يلخّصها خبرٌ انتشر في القرية انتشار النار في الهشيم: "السّبع طربَلَ"، ولم يستطع أن يرفع رأسه ورأس أمه أمام عروسته في ليلة الفرح. أما لماذا "طربَلَ" السبع، مع أنه رمز فحولة شباب القرية، فحكاية أخرى تنتثر تفاصيلها على مدى الصفحات، وتنتهي بانتحاره، في سرد مبكّر عن نهاية الرواية، ما يعني أن الأزمة المفتوحة المشوّقة التي تابعها القارئ في البداية أُغلقت على نحو مبكّر، وكان من الممكن تأجيلها، لا سيما أن هذه الشخصية غنية بما يكفي للإفادة منها حكائياً ورمزياً، في ظل وجود قيادة فلسطينية "مطربِلة"، تعيد إلى ذاكرتنا صورة أبي الخيزران قائد صهريج الموت في رواية "رجال في الشمس" لغسان كنفاني.

هنا يقدّم الروائي بداية حكاية مشوّقة مميزة، تؤرق مجتمع الرواية، وتصلح تماماً لتظلّ خلفية لحكاية القدس النبيلة، غير أنّ انتحار السبع المبكر يحرفها إلى مسار آخر، قبل أن يفيد منها على الوجه الأكمل، منتقلاً إلى حكايات تنبت فجأة وسط السرد، ثمّ تختفي.

على أنّ هناك ظلال حكاية ضبابية، ربما كان من الأفضل تظهيرها في السرد، هي حكاية (ذي الكفل ـ كافل) السارد الشاهد على الرواية، فهو يبدأ مستمعاً من أبيه ومن الآخرين، وينتهي متحدّثاً لابنه، لتصبح القدس حكاية تنتقل من جيل إلى جيل: "أرى من مكاني، وأُري ابني، وأنا أشير له، لينظر إلى سفح جبل الزيتون، كنيسة الدمعة، وهو الاسم الشعبي لها، بينما تسمّى رسمياً كنيسة بكاء الربّ"، ص650.

هذا السياق المهم الذي لم تركّز الرواية على تظهيره جدير بأن يكون خطّاً تبتدئ به الرواية وتنتهي، بديلاً عن حكاية السبع التي استحقت جدارة البدء وانسحبت خارج الحكاية قبل نهايتها بكثير.

ثمة أمر آخر يثيره السفر الأول من الرواية، وهو يمتدّ على أكثر من أربعمئة صفحة؛ إذ من حقّ القارئ أن يتساءل: أيقدّم هذا السفر من الرواية حكاية القدس نفسها؟ أم يقدّم القدس من خلال الحكاية؟ يبدو أن أسامة العيسة كان ميّالاً للخيار الأول، ويبدو أن لهذا الخيار تبعاته على البناء الفني؛ لأنه جعل السرد بطيئاً جداً، لا يقدّم في الصفحات المئة والخمسين الأولى أي تطور حكائي مهم، ونحن هنا لا ننقص من قدر الجهود البحثية التي قدمها الباحث (نعم الباحث) في تقصّي تاريخ القدس وحاضرها، والحديث عن حاراتها وأزقتها، وجبالها وأوديتها، وأوليائها وأنبيائها، ومساجدها وكنائسها وزواياها وأسوارها وقبابها وقبورها، بل نجلّ دور هذا الجهد في ثتبيت روايتنا عن القدس في مواجهة رواية الآخر، غير أننا نَرفُق بالسرد الحكائي الذي لا يحتمل مثل هذه التفصيلات لقارئ ملول سيفتقد دافع التشويق قبل أن يصل إلى محفّز حكائي يعيده إلى أتون الحكاية، هذا إذا افترضنا أنّ الرواية رواية عن القدس، وليست رواية القدس نفسها.

بعد مئة وخمسين صفحة يعود الكاتب إلى الحكاية التي انفتح عليها السرد، إذ يقول السبع "المطربل" لوالد السارد: "أنا لست عنيناً، لقد جربت نفسي مع يهوديات شارع يافا"، ص152، ثم يعود السرد توثيقياً بطيئاً، ليشتد في فصول لاحقة (35، 36، 37)، ثم يعود من جديد بطيئاً، ليوضّح ما بات واضحاً، وهو أن الأب يريد أن يورّث الحكاية للسارد.

وفي السفر الثاني المعنون بـ "سفر للحزن والحياة"، والذي يمتد على أكثر بقليل من مئة وثلاثين صفحة يبدأ السرد باستشهاد مريم التشادية واعتقال الأب بعد إصابته في عملية فدائية نفّذها معها، تبعها هدم البيت، ما يعيد للسرد حيويته، ودفأه، وقدرته على إثارة القارئ: "ترى جدراناً وأسقفاً، وقواطع، وأبواباً، ونوافذ، تكتشف أنك كنت تبادلها التحيات، والعواطف والأشواق، وهي شاهدة على فرحك وحزنك، تنهار بسرعة مرة واحدة، عندما يضغط أحدهم على أزرار التفجير، فلا ترى منها سوى الغبار الأبيض"، ص441.

ويبدو لنا أن السفر الثاني (سفر للحزن والحياة) أقرب الأسفار الثلاثة إلى الانخراط في القالب الروائي الطويل، إذ ثمة أحداث فارقة، فاعتقال الأب يجبر زوجته على العمل، فتعمل في تنظيف منازل اليهود، ثم في منزل العرعور الذي آل إلى مؤسسة إسرائيلية، ثم يؤدي إلى ظهور ملثمين يقتلون زوجته في شبهة ظالمة، ما يحرّك السرد نحو احتمالات جديدة.

أما السفر الثالث الذي يساوي السفر الثاني في عدد صفحاته تقريباً فقد حمل عنوان "سفر للبقاء والحزن والحياة"، وظهر فيه أربعة أطفال يصنعون سهاماً ليقتلوا حارس العين اليهودي انتقاماً لاستشهاد الطفل موسى، ثم يقضون شهداء إثر انفجار غامض دبّره الاحتلال. وتمضي الحكاية معتمدة على وسيط الرسائل التي كتبتها لورا لتغطّيَ فراغ فترة زمنية قضاها السارد في لندن للدراسة، ولم يقرأها إلا بعد عودته، وهو سفر يقوم بوظيفته البنائية، ويغلق الدوائر التي تمّ فتحها سابقاً.

(3)

تكاد هذه الرواية تشبه حكاية ألف ليلة وليلة من حيث تداخل حكاياتها الفرعية، بعضها ببعض، فلا نكاد ندخل في حكاية حتى نخرج منها: حكايات متفرقة، تجمع بينها القدس، فتشتت انتباه القارئ الذي يلهث وراء حكاية تائهة للسبع "المطربل"، والأب الذي يريد الدفاع عن هويته بالسرد.

وإذا كانت حكايات ألف ليلة وليلة تسردها شهرزاد واحدة، فإن حكاية القدس (التي تقع في خلفية حكاية الرواية)، تسردها شهرزادات متعددة، بدءاً من الأب الذي يتكئ على ما يصادفه بصره، أو ما يعنّ له خلال حديث، ليحكي جزءاً من الحكاية التوثيقية، أو من حكايات الذاكرة القريبة، دون داعٍ سردي، على نحو ما نرى في السياقات التالية:

• "وانتقل والدي ليواصل حديثه عن وادي جهنم"، ص107.

• "قال لي: انظر تلك كنيسة الجثمانية، دقق النظر في أعمدتها وواجهتها ورسومها، انظر للأعمدة الوردية المبهرة الأكثر اكتمالاً وجمالاً، تخيّل كيف حفّها الحجارون"، ص108.

• قال والدي: "انظر على امتداد الوادي: سترى أضرحة ومغارات وكهوفاً استخدمت للدفن. أترى الأضرحة الثلاثة؟ إنها أضرحة ذات أشكال غير مألوفة في فلسطين، ولكنها مبهرة"، ص148.

• "خرجنا من القبة، وودع والدي الشيخ عبد رب النبي، معتذراً عن أي إزعاج، وانطلقنا، وهو يقول: الآن إلى وادي حلوة"، ص180.

• "استغربت الاسم حِطّة، يُطلق على أحد أبواب الأقصى، فكان جواب والدي حاضراً كأنه يتوقعه: قال الله لبني إسرائيل "ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ"، ص175.

• "أشار والدي إلى نتوء كبير في جدار، يشبه الشباك، قائلاً: هذا سبيل آل قطينة، على اسم العائلة التي تسكن تلك الدور، بجانب بوابة ماندلبوم"، ص73.

• "تشجّع والدي، وأكمل السير شمالاً باتجاه مقام الشيخ جراح، القائد الذي عمل تحت إمرة صلاح الدين الأيوبي"، ص74.

• "بعد صمت الرشاشات وسيطرة العصابات الصهيونية على الأحياء العربية فيما سيعرف بالقدس الغربية أسس جدي الذي أصبحت بارودته عاطلة عن العمل مجموعةً كانت تتسلل بشكل دوري إلى أحياء قريبة مثل تل بيوت والطالبية والثوري والبقعة"، ص26.

• "في طريق العودة سمعت من والدي حكايات عديدة عن فلسطين وعن النكبة والنكسة، وعن جدي الثائر"، ص42.

• "عندما وصلنا حلحول قال والدي بأنه سيحكي لي حكاية القط الذي ناوش السماء"، ص43.

ربّما عليّ أن أعتذر للقارئ الكريم عن الإطالة في هذه الاقتباسات التي لا تشكّل إلا مجرّد إشارات لجزء يسير جداً من حكايات الأب التي يتضمنها النص الروائي. كما إنّ للأم نصيباً في الحكايات التي يتلقاها السارد، فهي تحكي له حكاية الدجاجة ص94، وحكاية نبي الله سليمان، ص ص 96ـ98، وص388، وغيرهما، وقد يتناوب الوالدان على حكاية واحدة على نحو ما نرى في ص275، فالحكايات التي تقع خارح السرد في هذه الرواية قدرٌ مفروض على أسرة السارد، وتتجاوزها إلى معارفها، فها هي ذي لور تحكي عن توابيت مرمية ورسومات في القصر، ص337، وعن القصر الشتوي للخليفة الأموي الوليد الثاني بن يزيد، ص412، وعن قرية نصف جبيل:

"ـ تساءلتُ: نصف الشمس؟

• قالت ضاحكة: نحن هكذا نسمي قريتنا، أجدادنا أخبرونا بأن جبيل تعني في اللغات القديمة الشمس، ولأن منازلنا تقع على مجموعة من الينابيع الطبيعية على سفوح الجبال، فإن الشمس تشرق عليها في فترة متأخرة وتغيب في فترة مبكرة، يعني لدينا نصف شمس فقط"، ص256. كما يتحدث أبو روحي عن سور القدس ص90، وعن مريم العذراء، ص235، ويقول: ""كل منا عليه أن يكتشف مكانه، ويعرف قدسه، ولكل منا قدسه"، ص88، بينما يحكي الشيخ نعيم حكاية طحّانة خُرسا، ص38، حتى السبع المطربل ذاته، يتدخل في حضور الدليل السياحي النصرواي، ليقول: "اسمها ليس فقط عين ستنا مريم، ولكن أيضاً: عين أم الدرج، وعين جيحون وعين سلوان، ومثلما تقدّسونها، نقدّسها نحن، فهي تأخذ قوتها من حقيقة أنها تختلط مرة في العام بمياه زمزم"، ص213ـ 214، كما إن المختار يسهم بقدر من السرد التوثيقي، ص286، مثلما يفعل كوهين، ص342، وجورجيت، ص316، و490، ومانويل، ص423، حتى لتكاد كل شخصية من الشخصيات الثانوية والطيفية تقدّم حكايتها في هذا الاستعراض الثقافي المرهق.

ها هنا تبدو الشخصيات ساردة للتاريخ أكثر من كونها محرّكة للسرد، خاصة في السفر الأول من أسفار الرواية، وكل ذلك ليحقق الأب هدفاً واحداً: "أريده أن يكبر بسرعة، ويصبح رجلاً"، ص55.

(4)

تبدو لغة الروائي في المقاطع السردية التي تنتمي للحكاية الأصلية موفقة وجميلة وشاعرية وذات طابع تحفيزي، إذ يرتفع مستواها الوظيفي حين تتحدث عن اليهود يتحسسون عضلات العمال العرب الذي يستأجرونهم للعمل في المستوطنات، كما تتجلى في أبهى صورها حين يحكي السارد عن استشهاد موسى ومريم التشادية، وحين تطلق أم السبع زغرودة بمولود قادم (هو السارد نفسه)، "فالفرح في عائلتنا مقتنص، ولا يعرف أحد ماذا يخبّئ الغد"، ص13، وحين تطوّق دورية من جيش الاحتلال العرس الثاني للسبع "كانت دورية من جيش الاحتلال تطوق المكان، مثلما فعلت خلال عزاء موسى، تحسباً لشيء لا أعرفه"، ص203

كما تحلّق اللغة حين تصطبغ بالبيئة الشعبية، وتُستخرج من معجمها (كالطبلية، والبجم والمطربل، والزبال، والغازيّة)، وحين يكتب الشيخ نعيم حجاباً، وحين تلوم أم السبع زوجة ابنها على "طربلته"، "فعلى البضاعة أن تعرف كيف تتصرف وتتغنج وتتقوس وتتدلع"، ص21، وترقص تلك اللغة وتدبك مع أبي طلعت الذي يغني في العرس الثاني للسبع، من باب اقتناص الفرح:

"يا زريف الطول وشوفوا يا بَشَرْ/ يا محلا دبكتنا مقاهرة وجَكَرْ

وما نخاف الجنود وما نخشى الخطر/ نحنا فلسطينية وهايِ أرضِنا، ص204

نود أن نقول: إن اللغة تسمو وتعذُب عند الروائي القادر على تطويعها حين يتخذ قراره بأن يكون روائياً، ويصوّر المشاهد السردية ذات الصلة الوثيقة بالحكاية الأصلية. أما حين يلبس لبوس الصحافي أو الباحث فإن اللغة تتجه عنده نحو المباشَرة، فنقرأ سياقات سردية، مثل قول عازار: "يا أستاذ عارف، أنا أعرف أنك مطلع عارف ومثقف، أية أرض وقفية تتحدث عنها؟ وهذه الأرض كلها منحها الرب لشعبه المختار"، ص224.

ومثل الحوار التالي الذي يجري بين شارلي وأبي روحي:

"ـ أنتم مواطنون في القدس الموحدة، صحيح بأنكم مصنفون كمقيمين، ولكننا جميعاً تحت إدارة بلدية واحدة، ويمكن أن نعمل معاً من أجل مصلحة فقرائنا وفقرائكم.

ـ بلديتكم بلدية احتلال، فقراؤنا يريدون التخلص من الاحتلال، وفقراؤكم يريدون الاستفادة من الثراء الذي يجلبه الاحتلال"، ص102.

ربما كانت هذه الرواية من أفضل المراجع التوثيقية التي كتبت عن القدس، وربما يجد من يقرؤها بصبر الباحث الكثير من المعلومات التي نواجه بها رواية الآخر. لكنّ القارئ الذي يبحث عن الحوافز السردية المشوقة لن يجد منها إلا القليل الموزّع على مساحة النص التي اقتربت من سبعمئة صفحة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق