أهلين

"من عرف الله سار، ومن سار طار، ومن طار حار". عجيل المقدسي.

الأحد، 24 مارس 2024

مع سماء القدس/ منير الحايك


 "نجوتُ لأروي قصَّتي، وأنتَ نجوتَ، لترويَ قصَّتَكَ، ولعلّ قصّتَينا قصّة واحدة، قصَّتنا معًا، وقصّتنا مع الآخرين، أو قصّتهم معنا" تقول لور لكافل في إحدى رسائلها قُبَيل نهاية رواية "سماء القدس السابعة" (منشورات المتوسّط 2023) لأسامة العيسة. ولعلّ هذه الجملة تختصر الكثير من تساؤلات كلّ متلقٍّ يحمل الكتاب، ويتهيّب البدء بقراءة صفحاتها التي تقترب من الـ700.

فمن كان يتوخَّى الـمُتعة من خلال التجديد والتجريب والتقنيات أو الألاعيب الروائية الجديدة، أو يتوخّى الغموض والتشويق والمفاجآت وانتظار الخواتيم المفتوحة والمدهِشة، لن يستطيع إكمال صفحات الرواية الأولى حتّى. وعلى الرغم من أن البعض وصفها بأنها رواية توثيقية، ولم يكن عمل أسامة العيسة سوى توثيق الحكايات والأمكنة في أزمنة حاضرة أو من خلال التذكّر والحَكي، فإنّ غرض الكاتب كان غير ذلك.
تبدأ الحكاية في السبعينيات، بأنّ السَّبعَ "طربَل"، السبع وهو قريب والد الطفل كافل، وبشكل أدقّ "ذو الكفل"، الذي ينقل لنا في قسم الرواية الأول "سِفر للحياة" حكايات والده، تلك الحكايات التي يرويها الأب عن القدس وأحيائها وشوارعها ومبانيها وأزقتها وساحاتها، ويروي عن ناسها وتاريخها وحاضرها، والد كافل الذي نسمعه يحكي فلا يكلّ ولا يملّ، وهو الشيوعي الذي يشارك في عملية ضد الاحتلال ويُؤسر على إثرها، ذلك الأسر الذي يقود الرواية في جزئيها الثاني والثالث "سفر للحزن والحياة" و"سِفر للبقاء والحزن والحياة"، وهما أقصر بكثير من الأول، نحو تحوّل من الحكي إلى الغايات الأخرى بعد الحكي للتأثير بالمتلقّي.
تبقى حكاية السبع وطربلته (عجزه الجنسي)، مع زوجته الأولى ومن ثمّ الثانية، والتي تؤدّي به إلى مشكلات كبيرة كالعدوانية والإدمان وغيرها، ليصل في النهاية إلى أن ينتحر، حكاية السبع التي أرادت منها الرواية الإضاءة على جانب من مجتمعنا، الذي يتدخّل فيه الكل في شؤون الكلّ، حيث تدخل الخرافة والدين بشكل علني ومسيطر على حساب العقل والعلم، الأمر الذي يحيلنا إلى تساؤلات كثيرة حول جهل هذه البيئة، التي يجب أن تحارب جهلها حتى تستطيع التحرّر فكريًّا قبل كل شيء.
تستمرّ حكايات الأب من خلال مشاهداته مع ابنه، حكايات حول القدس، المدينة التاريخية، التي تتوالى عليها الاحتلالات والصراعات مع توالي العصور، لتقول الرواية بأنه على الرغم من كل ذلك، تبقى المدينة، ويبقى ناسها، ليعطي الأمل الذي أراده الوالد زرعه في أفكار طفله وخيالاته، علّه يقوده نحو مستقبل مختلف، ولكن الأمور تأخذ حيّزًا أكثر واقعية، فبعد كل حكايات الوالد وآماله وابتساماته المسيطرة، وبعدما توهمنا به الرواية بأنّ أمورًا إيجابية كانت تحصل لدى الناس العاديين في المدينة، فهنا الشيخ نعيم يحاول فكّ الحجاب، والشيخ عبد ربّ النبي يعارضه، والسبع يضرب خطيب زوجته الأولى بسبب الغيرة، ووالد كافل يلتقي مريم التشادية لتطاله شكوك ابنه وزوجته والقارئ، وهناك حوارات مع يهود و"إسرائيليين" من التي اعتدنا سماعها في الروايات والأخبار حول الحقّ والتاريخ والمقاومة والمستقبل، ولكن يأتي أسر والد كافل، مصدر الحكايات التي طالت، بعد فشل عمليته ورفاقه ضد الاحتلال، لتتكشّف الأمور، ويتكشّف الواقع الذي سيؤدّي إلى المستقبل الخارج عن إطار الأمل الذي تعطينا إياه الحكايات، فتموت الوالدة التي طلبت الطلاق واتّهمت بعلاقة مع رامي اليهودي، ومن بعدها يموت الأب، ليصبح مصير كافل السفر والتبني في إحدى المدن البريطانية وعائلاتها.
في الجزء الثاني من الرواية يخبرنا كافل بموت أمه، ومن بعدها موت أبيه، كأنه مذيع في محطة إخبارية أجنبية، الأمر الذي كان له الأثر الكبير على المتلقّي، فالسرد البعيد عن وصف الحالة الشعورية للطفل، أدى إلى إثارة تساؤلات وتأثيرات كانت غرض الكاتب الأساسي، ليقول إن خبر وفاة امرأة من فلسطين أو أسير في سجون الاحتلال، ليس سوى خبر، قد نسمعه ولا نسمعه في الوقت نفسه، وقد يؤثّر خبر حالة الطقس فينا أكثر من هذا الخبر. في هذا الجزء نسمع صوت كافل مع شخصيات أخرى بشكل أكبر، أما في الجزء الأخير، فتحضر لور برسائلها، لتأخذ دور الوالد، ويأخذ كافل الوالد مع ابنه دور والده، لتكون نهاية الرواية تشبه بدايتها، ولتقول إن للحَكي دورٌ هو أحد أدوار المقاومة، فالحكايات يجب أن تبقى، والرواة يجب أن يستمرّوا بالحَكي، فتبرّر الرواية لنفسها كثرة الحَكي فيها، فتكون هي الغاية بذاتها.
مأخذ على الرواية على الرغم من دَور الأب وحكاياته فيما تم ذِكره سابقًا، وهو جزء الرواية الأول، الذي كان يمكن أن يكون أقصر بكثير أو أطول بكثير، فلو أن بعض الحكايات جاءت أقلّ توثيقية، لما شعر المتلقّون، بالملل الذي شعروا به فتركوا الرواية ولم يكمولها، لأنهم حكموا عليها بأنها للتوثيق فقط، فغاية "الحَكي" التي تحدّثنا عنها، يجب أن يقرأها الناس العاديون وليس النُّخَب، الذين أصبحوا قلّة قليلة جدًّا، فلغة النصّ وسلاسة السرد وواقعية الشخصيات والأمكنة والأزمنة، كانت كفيلة بشدّ القارئ، لو لم تحاصره كثرة الحكايات في البداية. تلك الحكايات تقودنا إلى سؤال تقنيّ قد يكون مأخذًا آخر على النص، فكيف يمكن لطفل في العاشرة أن يحفظ تفاصيل حكايات والده بدقة، ويسردها عندما يكبر؟!
إنها رواية صعبة، ولكنها ضرورية، نحتاجها ويحتاجها جيلنا والأجيال القادمة، فالقُدس أولوية كما كلّ شبر من أراضي فلسطين المحتلة. وأختم من الرواية نفسها "القُدس، مدينة الحِجارة، وتدويرها، ما تهدمه الاحتلالات تبنيه احتلالات أُخرى، وتُواصِلُ المدينةُ القدَرية رحلتَها، ونظلُّ نحن فيها، مثل هذه الحجارة، قد تُهدَم وتُشَتَّت، ولكنها تعود مبنيّةً من جديد".

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق