أهلين

"من عرف الله سار، ومن سار طار، ومن طار حار". عجيل المقدسي.

الاثنين، 18 مارس 2024

أسامة العيسة: نجوتُ لأحكي

 


روايته "سماء القدس السابعة" رشحت لجائزة "البوكر"

أسامة العيسة

مهما تنوّعت إصدارات الروائي والباحث والصحافي الفلسطيني أسامة العيسة، تبقى فلسطين حاضرة في أعماله، بدءا من مجموعاته القصصية التي سجلت بداية تجربته الأدبية عام 1984، ثم رواياته السبع ومنها "وردة أريحا" و"قط بئر السبع" و"مجانين بيت لحم" التي أهلته للحصول على جائزة الشيخ زايد للكتاب فرع الآداب عام 2015، في حين وصلت روايته الأخيرة "سماء القدس السابعة" إلى القائمة القصيرة للجائزة العالمية للرواية العربية (البوكر) 2024.

ما بين إصدار أدبي وآخر كان العيسة حريصا على تقديم فلسطين بمنظور تاريخي وبحثي وأصدر كتبا عدة من بينها "ظله على الأرض: ألقاب حكام مسلمين في رقوم مقدسية" و"مخطوطات البحر الميت: قصة الاكتشاف". هنا حوار معه.

  • وصلت روايتك "سماء القدس السابعة" إلى القائمة القصيرة للجائزة العالمية للرواية العربية، فهل ترى أن هذا الترشح جاء نتيجة مقاومة من نوع مختلف؟

لا أحب أن تكون لديَّ ادعاءات كبيرة أحمّلها للعمل الأدبي. أعتقد أن أي عمل أدبي عليه تقديم نفسه كأدب دائما، لكن لو حدَّثت شخصا عن يوميَّات الكتابة والحياة في ظل الاحتلال، ربما اعتُبر ذلك بطولة.

أعيش في مخيم الدهيشة الذي يتعرض منذ عقود لاقتحامات نهارية وليلية، واعتقالات وشهداء وجرحى ودهم منازل وحظر تجوال كان يستمر أحيانا في المرة الواحدة، أكثر من ستة أشهر. هناك أمر يتعلق بالتعود، ولا تستثنى الكتابة من ذلك. يرتقي مثلا شهيد أعرفه أو أعرف والديه، وبعد الجنازة والحزن، يكون عليَّ ايجاد أي مكان أجلس فيه لأكتب حكاية الدم الراحل. الكتابة ذاتها، في مختلف ظروفها تعتبر مقاومة، ليس فقط بالمعنى الوطني الذي يشمل الدفاع عن الأرض المغتصبة، لكن أيضا هي ديناميكيات الكاتب الدفاعية عن ذاته الإبداعية في مجتمعات ليست الكلمات من أولوياتها. كل ليلة، أُخبئ الحاسوب المحمول، تحسبا لاقتحام منزلي، وحتى لا يصادر وتذهب معه كتابات.

يدهشني كيف تصمد أساطير الناس وتنتقل كنسغ عبر القرون، لتتشكل مع ما يفد من أفكار وأديان ثقافة جديدة

  • استغرقتك كتابة "سماء القدس السابعة" سنتين من التنقل بين القدس وبيت لحم، كيف ألهمتك هاتان المدينتان؟

عشت وما زلت، على أرصفة هاتين المدينتين. المسافة إلى باب العمود، وسط البلد في القدس، من منزلي كانت تستغرق سبع دقائق، عشت لأختبر كيف يمكن أن يكون السفر إلى أيّ  دولة في العالم أسهل من قطع هذه المسافة، بسبب إجراءات الاحتلال. في أوقاتٍ كثيرة خلال كتابة الرواية، وفي ظروف معينة، كنت أقطع المسافة بين المدينتين مشيا.

بيت لحم والقدس مدينتان توأم، ولو لم تُنكبا لصارتا مدينة واحدة. حدود القدس الاحتلالية الآن جزءٌ كبير منها يمتد على أراضي بيت لحم التي تُخنق مثل باقي المدن الفلسطينية. حكايات المدينتين في الحرب والحب والمجتمع تضافرت، حاولت لملمة ما تبقى من هذه الحكايات، وكثير منها تركها أصحابها وفرّوا، حاملين معهم وطنهم، مع قناعة أن من الصعوبة العيش فيه.

  • يحضر الرقم سبعة في عنوان روايتك، وهو رقم له خصوصية دينية أو علمية، فمعادن الأرض سبعة (على سبيل المثل)، فلماذا السماء سابعة عندك؟

الرقم سبعة رقم سحري في ثقافة الشرق القديم، تمكَّن من الصمود لدى شعبنا، وهو يغيِّر دينه على الأقل ثلاث مرات خلال ألفي عام. يدهشني كيف تصمد أساطير الناس وتنتقل كنسغ عبر القرون، لتتشكل مع ما يفد من أفكار وأديان ثقافة جديدة، ولكنها ذات جذور.

أسامة العيسة

الفلسطيني، يعيش وفيه من جذوره الوثنية واليهودية والمسيحية والإسلامية الكثير. هذا هو نسغ الهوية، التي تتمتع بدناميكية، ولكن ليس إلى حد الخروج عن الشروط المكانية لهذا الحيّز الصغير، طريق الحضارات والغزاة والفاتحين والأفاقين والمغامرين، الذي يحمل اسم فلسطين.

هذا نوع من المقاومة، الانحناء أمام الأنواء، هو صمود، ثم تفرد الهوية عودها، وما توقعنا أنه انتهى نراه يتجدد في الأمثال، والدين الشعبي، والتقاليد وغيرها. هذا سرّ الرقم سبعة.

آمن ناسنا بمقولة: "يا ناصر السبعة على السبعين" وعاشوا الأمل. في فلسطين يعيش الإنسان حالما، مؤسطرا الحياة، مؤمنا أن السماء ستتدخل في وقت ما لتحسم الكثير.

المكان الفلسطيني

  • للمكان حضور أساسي في أعمالك الأدبية، فكيف توظف المكان الفلسطيني وتمنحه بعدا روائيا تاريخيا؟

مشروعي الروائي قائم على تقديم المكان والزمان الفلسطينيين. من المؤسف أن من احتل فلسطين قدَّم رواية منتصرين، بمن فيهم الحكّام المسلمون، بمختلف تنويعاتهم. فلم تقدم تلك الرواية إضافة معرفية الى المكان الفلسطيني، واستثنيت منها رؤية الناس لأنفسهم، وللآخر. الرواية لديّ، هي أيضا تاريخ المهزومين.

أنا ابن عائلة لاجئة، فجأة فقد الوالدان عالمهما ومنزلهما وأرضهما وقبور أسلافهما وهويتهما الفلاحية وكل شيء. ولاذا بالصمت في مخيم اللاجئين، وهما يعانيان من الحكام والقمع وفقدان الأبناء. حسب إحصائية للانروا، فإن 50 في المئة من أبناء المخيمات منذ بداية خمسينات القرن الماضي حتى منتصف ستيناته، ماتوا. أنا من الذين نجوا وقد نجوت لأحكي الحكايات.

رواية فلسطينية

  • لديك إصدارات قصصية وأخرى روائية، فمتى تكتب القصة ومتى تتجه إلى الرواية؟

أوّل إصدار لي كان مجموعة قصصية صدرت في القدس عام 1984 بعنوان "ما زلنا نحن الفقراء أقدر الناس على العشق"، وفي العام التالي أصدرت في رام الله قصة طويلة بعنوان "الحنُّون الجبلي"، وسمعت من كثيرين أنّ عليَّ أن أكون روائيا. فكتبت رواية واحدة على الأقل لم تنشر، ومجموعة من القصص صدرت لاحقا.

أشعر بالقرف من المدّعين والشلليين الذين لا يعرفهم سوى جمهور "فيسبوك"

لا أعرف متى عليَّ أن أكتب رواية أو قصة أو بحثا، أو الأصح متى أنشر. أكتب في هذه المجالات كلها. لكن سوق النشر يتحكّم. الرواية هي السائدة حاليا. القصة ليس لها سوق، أما الأبحاث فتحتاج إلى إنتاج من ناشر يقدّر أهمية نشر أبحاث ذات طابع موسوعي استغرق إعدادها ميدانيا سنوات طويلة، وأن لها أن تكون استثمارا ثقافيا ومربحا أيضا.

  • متى تتجه إلى إصدار الكتب التي تستمر فيها بالتوثيق بطريقة مختلفة، وإن بقي الموضوع دائرا في الفلك الفلسطيني؟

هذا هو مشروعي الثقافي، عن فلسطين المكانية-الزمانية، البحث يحتاج إلى وقت طويل، وهذا يناسب طبيعتي المنقبة الشغوفة وظمئي المعرفي الذي يصعب إرواؤه. أشعر أحيانا أنني أبحث لنفسي، لكي أفهم أولا، أو أحاول الفهم، لذا تتعدد الاهتمامات، وما زلت لا أستعجل النشر في المجال البحثي.

  • ماذا عن أفلامك التسجيلية التي تراوحت بين السياسة والثقافة؟

أعددت أفلاما عن الأغنية السياسية في فلسطين والثقافة في بلادنا، لكن ما واجهته هو الفقر الرؤيوي لدى المنتج وجهات الإخراج والتنفيذ. اعتقدت أن هذا النوع من الفنون، كالصحافة، غير راسخ في بلادنا العربية. هناك استسهال في الإنتاج لتلبية رغبة قنوات فضائية لتعبئة ساعات البث، يستفاد من ذلك أن المشاهد العربي غير متطلب. 

صناعة ثقيلة

  • إلى أيّ  حدّ تعتبر نفسك حرا في ما تقدمه، وإن ظهرت التحديات فكيف تواجهها؟

أنا حرّ ولكن؟ أنا كاتب في شرط مكاني وتاريخي محدد. لست كاتبا من أميركا اللاتينية مثلا. ما هو مقبول من كاتب أجنبي، غير مقبول من كاتب عربي. أعتبر هذا القارئ الذي لا يتقبل مني ما يتقبله من نظير أجنبي، شريكا وأتصالح معه، فأخطو وإياه خطوات إلى الأمام مع كل عمل. وكل عمل بالنسبة إليّ هو مغامرة في الأسلوب والمضمون. يبدو أن الأمور تنجح حتى الآن.

  • كيف ترى المنتج الروائي الفلسطيني؟

لن تكون نظرتي موضوعية إلى هذا المنتج، كواحد من أبناء الكار. لكن ما أستطع قوله إنه بعد سنوات مرحلة أوسلو طرحت أسئلة كثيرة حول الأدب المقاوم الذي أنتج قبلها، وكتب "بالدم" كما كان كتَّاب منظمة التحرير يقولون، لكن القراء رأوهم يعودون للجري وراء المناصب والمكاسب ويتبوؤن مقاعد فساد. لا أرغب في استثناء أحد منهم.

تعجبني المغامرات الروائية الطموحة، كأعمال عبَّاد يحيى، وباسم خندقجي مثلا. أشعر بالقرف من المدّعين والشلليين الذين لا يعرفهم سوى جمهور "فيسبوك".

  • ماذا بعد "سماء القدس السابعة"؟

لديّ  مسودات كتبت قبل رواية "سماء القدس السابعة" لكنني أتمهل في النشر. أكتب يوميا، وأبحث وأقرأ وأنقب. الكتابة صناعة ثقيلة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق