أهلين

"من عرف الله سار، ومن سار طار، ومن طار حار". عجيل المقدسي.

الخميس، 9 أبريل 2020

لامارتين أمام طاعون القدس..!






أرسل العم جورج لي، صورة لباب الخليل، وقد أُغلق، لم يكن فقط هو من تأثر لإغلاق القدس القديمة، ففي الطرف الآخر، وهو التسمية الأسلوية للإسرائيليين، أبدى الصحافي نير حسون تأثرًا، وهو ينشر أيضا صورة لباب الخليل المغلق، ولكن بواحد من أسمائه المتعددة؛ باب يافا.
في عام 1932م، عندما خضعت المدينة لطموح محمد علي الامبريالي، ضربها الطاعون، وهرب إبراهيم باشا، منفذ سياسة والده من المدينة، وبنى داخل باب الخليل، القشلة لحماية جنوده، والتي صمدت ليتوارثها سلسلة من المحتلين حتى ألت إلى الإسرائيليين. وحللت فيها سجينًا ليومٍ واحد، قبل النقل إلى معتقل المسكوبية في عام 1991م.
وصل لامارتين (1790 - 1869) ، شاعر فرنسا الرومانسي، والسياسي الطموح، في رحلته الأسطورية إلى الشرق، إلى باب الخليل، الذي يسميه باب بيت لحم، ولكنّه لم يستطع دخول المدينة، التي ضربها الطاعون.
يروي، حسب ترجمة الدكتور مي عبد الكريم (رحالة رومانطيقيون: يوميات ومشاهدات، فلسطين والأردن في كتابات فرنسية في القرن التاسع عشر، 2005م) اللحظات الأولى لوصوله باب الخليل:
"إنَّ بوابة بيت لحم التي يشرف عليها برجان متوجان بفتحات قوطية صامتة مثل أبواب القصور المهجورة كانت مفتوحة أمامنا، وكنا نتحرق شوقا لاجتيازها، ولكنَّ وباء الطاعون كان في أشده في مدينة بيت المقدس".
جاء لامارتين إلى الشرق، كما تذكر عبد الكريم، ليس بحثا عن صور التوراة فحسب: "إنما كان يريد أن يواجه المسألة الدينية ميدانيا، وهي مركز تفكيره، بل كان يفكر بتوسيع تجربته حول المجتمعات الإنسانية. وفي الثامن والعشرين من أيار أصيبت ابنته الصغيرة جولي بأزمة تدرن رئوي، وكان الوالدان يأملان بأن مناخ الشرق قد يكون مفيدًا لها".
جاء في الترجمة أن لامارتين أقام في دير مار يوحنا في الصحراء، وهذا أمر مستبعد، وعلى الأرجح يوجد خطأ في الترجمة (التي تحوي أخطاء عديدة بالنسبة للأمكنة والأسماء الفلسطينية). من خلال ما ذكره، أقام ابن طبقة النبلاء المنسلخ عنها الذي انضم للثورة عليها وعليهم، وحاشيته، حول أسوار المدينة، مستنشقًا بكل ما لديه من حواس عبق الأرض التي مشى عليها المسيح، فيتجول في الجثمانية، ووادي قدرون، ويصعد إلى جبل الزيتون على جواده، ليتأمل العمارة الدينية الإسلامية، وقبر المسيح، التي يجوس بينها الطاعون.
يذكر لنا لامارتين، شذرات مما رآه: "كنا نجلس كل نهار أمام الأبواب الرئيسية لمدينة بيت المقدس ونطوف حول الأسوار مارين أمام جميع أبواب المدينة الأخرى، فلم يكن يدخلها أو يخرج أحد منها، فلا متسول يجلس عند حدها، ولا حارس يظهر على عتبتها. ولم نكن نرى ونسمع شيئًا، فالفراغ هو ذاته، والصمت هو ذاته طوال ساعات النهار عند مدخل المدينة التي يسكنها ثلاثون ألف نسمة. وعندما كنا نمر أمام الأبواب الاثني عشر، كنا كمن يمر بالأبواب المتينة لبومبي أو هيركولاتوم".
قد يبدو عدد سكان المدينة مبالغا فيه. وهو من النادرين، الذين يذكرون عدد أبواب المدينة بشكل صحيح.
يذكر: "لم نرَ سوى أربعة مواكب جنائزية تخرج صامتة من باب دمشق، وتتجه على امتداد الأسوار نحو المقابر التركية. وشاهدنا عند مرورنا أمام باب صهيون مسيحيًا فقير الحال مات بالطاعون في هذا الصباح، وقد حمله أربعة من حفاري القبور إلى مقبرة الإغريق. مروا قربنا ومددوا جثة الميت على الأرض، وقد لفت ثيابه، وشرعا بحفر مرقده الأخير بصمت عند أقدام اجيادنا"
يقصد لامارتين، بالمقابر التركية، مقبرتي الرحمة واليوسفية، حسب مسار الجنائز، وليس مقبرة باب الساهرة، ولكن لماذا كانت تخرج الجنائز من باب العمود، وليس من باب الأسباط، وهو المفضي إلى المقبرتين؟
يبدو طبيعيًا أن يُخرج المسيحي ضحية الطاعون من باب داود، الذي يعرفه لامارتين بأحد أسمائه الأخرى: باب صهيون، نحو المقبرة الأرثوذكسية، التي يبدو أنها لم تكن مسورة.
لاحظ لامارتين، أن: "الأرض حول المدينة قد قلبت حديثا بسبب قبور شبيهة بهذه، وكان الطاعون يضاعف من عددها كل يوم، وكان الصوت الوحيد المسموع خارج أسوار بيت المقدس هو النحيب الرتيب للنساء التركيات وهن يبكين موتاهن. ولم أكن أعلم أن الطاعون هو السبب الوحيد لهذا العواء في الشوارع، ولهذا الصمت العميق الذي يلف مدينة بيت المقدس، ولم أكن أظن ذلك لأن العرب والأتراك لا يستسلمون لمصائب الله، لقناعتهم بأن الإنسان لن يفلت من مصيره أينما كان، وليس هناك من طريق تنأى بهم عنها-إنه لتفكير رائع، ولكن يا ترى من الذي يؤدي بهم إلى النتائج الوخيمة".
يشرقن لامارتين، أهالي القدس، وفق تخيلات مسبقة، ويستكثر على نساء القدس عواطفهن-يا لقلبه. لم ينجو هو الآخر من التنميط الاستشراقي.
لم يمكث لامارتين طويلاً في القدس. وصلها في العشرين من تشرين الأوَّل 1832، ثم عاد إلى بيروت في الخامس من تشرين الثاني. ماتت ابنته هناك وعمرها 11 عامًا في 7 كانون الأول.
عاد إلى يافا في شهر نيسان العام التالي 1833م. وبينما كانت زوجته في زيارته للقدس التي فتحت أبوابها، بعد أن غادرها الطاعون، كتب قصيدة رثاء ابنته.
لم يذكر لامارتين، الغزو المصري للقدس، أو أي موقف لإبراهيم باشا، الذي لم تنته حكايته مع المدينة، مع غياب الطاعون. كان في انتظاره وانتظارها، حوادث ستطبع المدينة وفلسطين بطابعها حتى يوم الكورونا هذا.
ولكن تلك قصة أخرى، طويلة، وكثل قصص القدس؛ مدمية..!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق