أهلين

"من عرف الله سار، ومن سار طار، ومن طار حار". عجيل المقدسي.

الاثنين، 17 ديسمبر 2018

رحلتها الأخيرة..!



الشرقاوي؛ صاحب السلطة في المكان، الّذي يتكرر اسمه باستمرار، يطلب مني الاسم بنبرة عملية، بما يناسب معلم مسيطر على عمله، ويقول لي وهو يكتب:
-الحاجّة...

قلت لمن تنهزم لهجته المصرية، أمام سطوة البداوة، وأنا أتابع انهيال التراب على القبر: "ليست حاجّة". يتدخل ليث مؤكدًا: "نعم الحاجّة؛ فراس حجَّ عنها"، ويمليه الاسم بدقة الحفيد الموكل بالمهام. ستقول لي سعاد لاحقًا بأن فراس عمرَ أيضًا عُمْرتين نيابة عنها، وبعد سماعه خبر الوفاة انطلق من جدة ليعمل عُمْرة ثالثة. رضاء الابنة بما بفعله ابنها الحفيد لأُمّها.
يختلط المتطوعون مع فريق الشرقاوي في إهالة التراب على الجثامين الثلاثة التي استقرت قبل قليل في ثلاثة قبور متجاورة. اثنتان منها لنساء، وواحدة لرجلٍ. عرفتُ ذلك من الصلاة عليها في المسجد قبل قليل. أُسجيت الجثامين بالقرب من الباب وكانت جثمانها في الوسط، كما أكد لي رائد الّذي وصل قبلي إلى مقبرة سحاب. كنت مشوشًا من عدم النوم في الليلة الماضية، والسفر الطويل، من ضفة النهر المقدس إلى ضفته الأخرى، عبر حواجز جسر الاحتلال، لأصل في الدقائق الأخيرة إلى غرفة الموتى في مستشفى الجامعة الأردنية المكتظ بالنَّاس، وعندما دخلت إليها، كان وجهها وجزء من رأسها مكشوفًا، بدا لي الأمر غريبًا قابل للتصديق، عن التي خلت بأنها لن تموت أبدًا. بدا وجهها المغضن بفعل السنوات الطويلة، وكأنه وجه أليف من حياة أخرى، ربما كانت فيه ابنتي. لم أر إلَّا وجه طفلة حزينة قليلاً. حضنت سعاد وانشراح والحفيدات، وخصصت ميسون بحضن أدفأ، لتلك التي رافقتها في سنواتها الأخيرة. العيون متغضنة بالدموع، كذلك عيني، انتبهت لوجه ملائكي حدده حجاب أبيض. كانت تبتسم ابتسامات رضى وتتمتم بمأثور ديني. إنها مَن غسّلَتها بدقةٍ وباهتمام، كما ستشيد بذلك سعاد وانشراح، هي مِن فريق متعهد الدفن، نقدتها خلود وانشراح إكراميتين لم ترفضهما، تضاف إلى أجرها الدنيوي والأخروي. هي أوّل رمز ألتقيه في مأسسة الموت.
عندما انطلق الجثمان في عربة نقل الموتى، لم يُسمح لي بمرافقتها، فالحدود يجب أن تكون واضحة، ولا يمكن تجاوزها في مأسسة الموت، حتّى لو كانت جنينية وغير مكتملة. تنطلق وحيدة مغطاة بحرامٍ، كما يليق برحلة نهائية، تحتاج إلى احترام الصمت، وأخيرة فوق الأرض التي جاءت إليها قبل تسعة عقود على الأقل، ولم يستشرها أحد بذلك، ولم يكن لها خيار في أي بلد على هذه الكرة ترغب أن تعيش فيه، حُددت لها تلك الزاوية في قرية قديمة، في هضاب فلسطين المنخفضة تتوالى عليها الاحتلالات، صمدت في يومٍ ما أمام سنحاريب، لكنّها، مثلما ستفعل مرات كثيرة بعدها أعلنت استسلامها، ولم يؤخذ رأيها بأية قرارات مصيرية أخرى شكلت حياتها، من زواجها طفلة، مقابل زواج شقيقها مِن أخت مَن سيكون زوجها، إلى تهجيرها أُمّ صبية، إلى فقدانها خمسة أبناء في مخيم التشريد، إلى تحملها ردود فعل لم ترغب بها، على حمق ولديها الّذين انشغلا تباعا، بمناطحة الاحتلال، دون تقدير العواقب، أو مراعاة لشعور أُمّ تخاف من اليهود، إلى حد الرعب أحيانًا. لم تكن أُمًّا فلسطينية نموذجية حسب مواصفات المزاج الجمعي للأُمّ الفلسطينية، التي يمكن أن تدفع أولادها إلى أتون النضال، وتزغرد إذا استشهدوا، ولكنها وجدت نفسها مرغمة على تحمل رعب اقتحامات الجنود، وعبء زيارة السجون.
لم أستطع أن أُقدّر بأن سحاب يمكن أن تكون بعيدة عن عمَّان، كل هذا البعد، وعندما وصلنا كان الجثمان سجَّى بين جثمانين لا يعرفهما. هل تعارفوا بعد أن جاورتهم الأقدار؟ هل راقت رفقتهما لهذه المتطلبة؟ عن ماذا كان أوَّل حديثهم بعد انتقالهم إلى عالم آخر؟
أشار لي رائد سريعًا، دون أن يتخلى عن موهبته كممثل، إلى أقرباء انتشروا في المسجد، لأداء الصلاة، بينما جلست على أرضية المسجد قرب رأسها، وسألت رائد إذا كان يعلم بأنها يمكن أن تسمعنا أم لا، فرد بملامح مسرحية ارتسمت على وجهه. انشغل أقرباء الجثمانين بقراءة آيات قرآنية عن روحيهما. أعرف أنها ستحب لو أن أي من أبنائها سيقرأ لها آيات بينات، وهي في وضعها الحالي بين عالمين، وتوقعت كيف سيكون ردة فعلها وهي نائمة الآن، كما كانت ردات فعلها وهي في عالمنا. بعد صلاة الظهر، طلب الشيخ بعبارات منمقة، ضَمنها جملاً مقدسة، أن توضع الجثامين التي لم تكد تتعرف على نفسها، أمام المصلين، حملت أنا ورائد جثمانها، وتطوع آخرون لمساعدتنا، مع أوامرٍ صارمة صدرت من مكانٍ ما، بأنه يجب أن تُرفع على الأكتاف، حتّى لو كانت المسافة ثلاثة أمتار أو أربعة. لو كان مشيل فوكو حاضرا، لأخضع ذلك لأبحاثه عن السلطة والمعرفة. ولسبب ديني أجهله سجَّيت المرأتان أوّلاً ثم سجَّى جثمان الرجل. ربّما عربون اعتذار لجنسهن من مجتمع ذكوري احتكر الوظائف الاجتماعية والدينية، وربّما إرهاص لما سيكون عليه وضعهن كنساءٍ في عالمٍ جديد، أكثر عدالة ومساواة. وبعد مقدمة دينية مكثفة من شيخ شاب أُقيمت صلاة الجنازة. وقفت بجانب رائد، وليس كما حدث في صلاة الظهر، عندما تركني ليتقدم صفًا مدفوعا بتعليمات من الشيخ حول ملء الصفوف واعتدالها.
فكرت بأنها ستلاحظ أناقة صلاة الجنازة، وهي التي كانت تبحث عن الطرق الأيسر للصلاة وتقديم فروضها الدينية، فلا يضطر المصلون فيها إلى السجود، وكأنهم يحافظون على أجسادهم منتصبة احترامًا للراحلين، خُيّل إليّ إنها المارش الجنائزي للأسلاف الّذين اضطروا لإقامة هذه الصلاة السريعة ملايين المرات ولعلهم طوروها خلال حروبهم الداخلية التي لم تنتهِ حتّى الآن، أو مع أعدائهم أو غزوهم لأراضي الغير. فما زال المأثور يتغنى بالخلفاء الّذين يحجّون سنة، ويغزون سنة، يقتحمون أراضي الغير، بفائض الرأسمال الّذي جُمع من فتوح البلدان، لمراكمة الغنائم، وتطوير الاقتصاد، وزيادة المخزون النسائي من السبايا والجواري والعبيد.
لم أكن على ثقة تامة إن كنت حفيدًا للفاتحين العظام، أو للمهزومين العظام، الّذي صمدوا بالتحايل، وحافظوا على نسغ هويتهم بأكثر الطرق تورية، إلى درجة أنهم نسوا ذلك، وبالغوا في تبني أيديولوجية الفاتحين، وأولوها بأكثر الأساليب غطرسة وعنفًا.
لم تفتنني حكايات أبطال الفتوح، ولم تأسرني مأثوراتهم، وقد يكون ذلك بسبب صدفة، ربّما حدثت لمزاج طفل متعكر في الثالثة الابتدائي، دون أن أعد أذكر ذلك المزاج السيء تمامًا. عندما قدَّم أستاذ التاريخ، الّذي لم يعمِّر طويلاً في مدرسة مخيم الدهيشة، درسًا عن فتوح الشام، ختمه هذا الحكاء المفعم بالتفاصيل، بهزيمة هرقل ووقوفه على أطلال البلاد ناعيًا هزيمته: "وداعًا يا سوريا الجميلة، وداعًا لا لقاء بعده". تنهيدة إمبراطور مهزوم أحب البلاد، لم يكن قبلها بسنوات قليلة يتوقع هذه الهزيمة، وتعامل مع رُسل الرسول العربيّ، باستهتار، ولعله ضحك عندما حمّلته رسائل التهديد وزر قومه، وعلى الأغلب لم يطلعه مستشاروه على ما جاء في سورة الروم، التي تنبأت بهزيمته وفي في قمة انتصاره على الفرس.
وعندما عدت إلى المنزل، القريب من المدرسة، لم يكن بإمكانها معرفة سبب شجني، وحتى لو تحدثت، فكيف لها أن تعرف أبطال زمن مضى، قد يحمل تاريخ متخيل، وكيف ستعرف هوية هرقل الّذي سيحزن عليه طفل المخيم الّذي جاء بعده بقرون، وتشرد ربما مثله تمامًا، ولكن الأوَّل إمبراطور وملك ومسيطر، صفات يداولها خالق الكون كما يريد، وليس كما يريد الخلق، وهذا ابن فلاحيّن طردا، هكذا بسرعة، وكأنه لمح بصر، من قريتهما، ففقدا عالمًا كاملاً.
ذكاءها الحاد، ربما جعلها تعرف، وتخشى، أن تكون نزوة الحكايات التي تأتي من أستاذ مدرسة متمرد، لعله جاء فقط ليسحر هذا الطفل، ويغيب فجأة، ستزاحم حكاياتها عن والدها، وقريتها، والإرث الشعبي، وغيرها وهي تقصها لي، بلغة تتخللها الفصحى، حفظتها صغيرة، رغم أُمّيتها.
سأسلم على أقرباء سبقونا إلى المسجد، لم أر بعضهم منذ ثلاثين سنة، وبدا كأننا لم نفترق إلَّا بالأمس ولم نلتق إلّا لنكمل حديثا انقطع، والتقيت غيرهم أراهم لأوَّل مرة. ليس مثل العائلات الفلسطينية قدرة على النمو في الشتات.
حملت ورائد الجثمان لإخراجه من المسجد، وانضم إلينا آخرون، يرغبون بمراكمة أجور في الآخرة. من له جثمان عليه أن يحرص على إخراجه بالصورة التي تليق، وسنسمع تعليمات تؤكد، من جديد، ضرورة الحمل على الأكتاف، وما أن فتح الباب، حتّى تلقفه آخرون.
سجَّى الجثمان في مركبة دفن الموتى مرة أخرى، لتتحرك من جديد في مملكة سحاب للموتى، أنزلنا الجثمان، وسرنا بأوامرٍ من متعهد الموت الشاب النحيل المبتسم؛ ابتسامة إرضاء الزبائن، وتزين وجهه لحية خفيفة رمز لمهنته التي تحتاج منسوب ما من التديّن، والذي يحرض على قبض أجرته في هذه الدنيا، ويرفض تأجيلها إلى الأخرى الخير والأبقى. احتججت وأنا أشعر بقوة الدفع من الخلف، على أننا نخبط على القبور، ولكن صوت المتعهد قلل من حُرمة ذلك، مجيزًا أن نخبط على القبور للوصول إلى القبر الّذي حددته ديمقراطية الشرقاوي، الّذي ترك لنا حرية اختيار القبر، في المقبرة المتربة شبه الصحراوية، وبدت لي، هذه الحرية، ككل الحريات، كم هي مقيدة وسط زحام الاوامر والافكار والسرعة. أرى من حولي ناس كثر يرتدون الملابس الشتوية، وكل منهم منشغل في أمورٍ لا يمكن تحديدها.  
ارتفع صوت الشرقاوي، وأصوات أخرى، وظهرت وجوه كثيرة لا أعرفها، وبدت كأنها انبثقت من أرضٍ أو نزلت من سماء، أو ذرتها نسمات الهواء الباردة. سلَّم عليّ المزيد من الأقارب، بينما كان شخص لا أعرفه يقفز إلى حفرة القبر على عمق نحو ثلاثة أمتار، سينضم إليه، على فترات ليث وآخرون لا أعرفهم، ترتفع أصوات بضرورة تغطية الجثمان المغطى أصلاً بالكفن الأبيض، بالحِرام، وأرى أربعة أشخاص توزعوا عل جنبات القبر الأربع، يفردونه حفاظًا على حُرمة امرأة تغادر عالمهم، ولكنهم أصروا على تذكيرها بأنها عورة حتّى لو كان لا يظهر منها أي شيء. أحاول أن أقول شيئًا عن هذه التي يخشونها، وكم هي تخصّني، وأنني صاحب القرار فيما يخصّها، ولكن الصوت لا يخرج، يموت في رحم الجبن. عندما انساب الجثمان إلى الأسفل، ليستقبله مَن نزل إلى اللحد، أمسكته من أعلى خشية أن ينزلق سريعًا، دون أن نستطيع السيطرة عليه، بعد اكتسابه قوّة دفع ذاتية نتاج رحيله على العالم الّذي سيذهب إليه، بينما أصوات الفوضى تتعالى وتصدر الأوامر المختلفة والمتضاربة، بينما الجسد لا يصدر أية ردود فعل وكأن الأمر ليس عنه ولا يعنيه، فواصل الانزلاق وأنا أحاول إمساكه. كانت تلك أخر لمساتي لجسد أمي، التي تحوّلت لحظتها من جثمان إلى جسد، ومن هي، إلى أُمّي.
عندما مددوا الجسد على أرضية القبر، شعرتُ بارتياح وأنا أتفقد وسعه بعيني المتعبتين. لقد حظيت المتطلبة بمستقرٍ أخير واسع لن يزاحمها فيه أحد، وهي التي قدست الفردانية وكان لديها منسوب عال في الرفض والعناد. شعرت بأنه يجب عليّ النزول والتمدد بجانبها، لليلة وحيدة، أُئنسها، ويمكن أن يكون لديها أخر حكاية، احتفظت بها، ولم تبح بها في ليالي المخيم الباردة، وخبأتها للزمن الّذي لم يكن لديها أية ثقة به. لقد خشيت المستقبل، بقدر فداحة خسارتها من الماضي. لم يكن مستقبلها، بالنسبة لها، أقل نكبة، من نكبتها الأولى الجمعية، ونكستها الثانية الجمعية التي جعلتها تحمل أولادها وتفرّ، عبر النهر المقدس، من اليهود الّذين طردوها، وجاؤوا ليكملوا المهمة، وكأنها مريم عذراء، هاربة بيسوع، ولم تعُد لاحقًا إلّا مضطرة، بسب زوج شجاع أكبر سِنًا منها منهك من الحروب، رفض أن يغادر مرّة أخرى، ويصبح لاجئًا من جديد، فبقي في المخيم، ولكن البقاء بجانبه لن يكون بقاءً عاديّا. الحروب، ليس كما يظن البعض أو يكذبون ويظهرون ما يبطنون؛ إنها تدمر العلاقات.
سيخرج مَن في القبر أخيرًا، وتوضع على حوافه بارتفاع متر المستطيلات الإسمنتية، وسيتهمك المتطوعون ورجال الشرقاوي، سريعًا، في إهالة التراب على القبر المغطى، وسترتفع أصوات بأن هذا الفعل هو تقربًا إلى الله، سأرمي كتلاً ترابية، وأنا أرى الحماسة التي يبديها شبان لا أعرفهم في تغطية مستقر أُمّي وكأنهم في معركة جهاد، مصرين على الانتصار رغم فداحة المهمة، والغبار الّذي يغزو الأجساد، والتراب الّذي يلطخ الملابس. ولكن ذلك لم يؤد إلَّا إلى استعار معركة المجارف مع أكوام التراب، والبحث عن المزيد منها، لتلبية طلبات متطوعين جدد. بينما يتقدم منّي ليث طالبًا عشرين دينارًا نقدها، إكرامية لأحدهم الذي لا يرغب بزيادة رصيده في العالم الآخر.
وعندما قارب العمل على الانتهاء، انتصب واحدٌ منهم في ركن القبر الشرقي، أمام غابة من القبور المتشابهة، شاب ملتح، ليرتجل خطبة أخيرة، ستسمع فيها أُمّي صوتًا بشريًا ليؤكد لها أنه ورفاقه فعلوا ما فعلوه من جهدٍ تجاه المتوفاة التي لا يعرفونها إلَّا لأنها من أهل التوحيد. طالبًا من الله أن يرحم أموات المسلمين. ولن أعرف أبدًا لماذا على خالق الكون أن يرحم فقط أموات المسلمين؟ ولماذا على شيخ شاب أن يؤمن منذ الآن أنه يجب إسقاط باقي الخلق من رحمته.
قلت بان أمي، وهي ابنة شيخ، لا تمانع إذا رحم الله، غير المسلمين أيضًا، ولكنَّ الصوتَ، لم يخرج، خنقته النسائم الصحراوية المتربة. شعرت بنفسي غريبًا تخنقني العبرات، في بلادٍ تحتلها العبارات. تمنيت لو أن موسيقى هايدن رافقت أُمّي في رحلتها الأخيرة.
أطلق الشيخ الشاب، وصفات، لحماية القبر مِن الأفاعي والدود، ومِن غيرها مما يدب على القبر، ذاكرًا أسماء الآيات والأدعية، وأي منها، إذا رُددت سيمنع هذا النوع أو ذاك من الاعتداءات على الأجساد المستقرة تحتنا.
تمنت أُمّي وهي تهزأ من الموت، قبل سنوات، أن تكتسي عظامها بلحمٍ وافر عندما تموت، كي لا يجوع الدود: "من أين سيقتات الدود  المسكين؟".
صورت القبر، لتحديد مكانه، وسط غابة القبور، وسأضيف المقبرة لقائمة المقابر التي ينتثر فيها أفراد العائلة. قبل خمس سنوات، زودتني أُمّي، بأسماء الأفراد الّذين ماتوا قبل ولادتي وأين دفنوا بعد تغريبة العائلة المستمرة. وقبل أكثر من عام أضفت مقبرة في العقبة، التي تسميها أُمّي عقبة مصر، التي استقر فيها ابنها الأكبر صبحي، الذي غادر البلاد قبل مجيئي إليها بعامين.
في مكانٍ ما تحت الأرض في فلسطين الشرقية، أو أي كان اسمها؛ جمهورية شكوى النَّاس، ومملكة التكشيرات، التي عندما أطأها، أفكر في كيفية الخروج منها، تركتُ أمي التي لا أعرف إلى أي مدى كنت بارًا صالحًا بها؟ أمّا هي فأظنها كانت أُمّا لم تكتمل، محكومة بظروفها الموضوعية والذاتية القاهرة. لطالما شعرت بأنني أنا قد أكون أُمّها. نِمتُ طفولتي الطويلة في سريرها، في غرفةٍ بنتها مؤقتًا وكالة الغوث في مخيمٍ مؤقت، لقضية مؤقتة على أرضٍ مستأجرة مؤقتة من أملاك العدو التي اشتراها في مزادٍ علني، صادرتها الحكومة الأردنية التي فرضت قوانينها العرفية على أُمي لنحو عشرين عامًا. في هذا المخيم ولدت لصدفة أخر لقاء مؤقت بين اثنين عاشا حياتهما على المؤقت الّذي لا يؤقت.
التي عاشت فوبيا المستقبل، اتخذت قرارها أخيرًا، للذهاب إلى مجهوله، وأظن أنه أشجع قراراتها..!
عمّان: 13-12-2018م
مخيم الدهيشة: 17-12-2018م


هناك 4 تعليقات:

  1. عظم الله اجوركم واحسن الله عزاءكم ورحم الله الفقيده الوالدة وجعل قبرها روضة من رياض الجنه

    ردحذف
  2. أزال المؤلف هذا التعليق.

    ردحذف
  3. عندما تختنق بنا المشاعر المؤلمة لن نجد متسع يعلو فيه صوتنا وهكذا أنا الان لا أجد تعليقا يرتفع به صوتي
    الله يرحمها ويغفر لها ويجمعنا فيها وبوالدي بالفردوس الأعلى

    منى العدوان

    ردحذف