أهلين

"من عرف الله سار، ومن سار طار، ومن طار حار". عجيل المقدسي.

الخميس، 23 أكتوبر 2014

قهرتني يا أسامة/عميد شحادة


 

قررت الانسحاب من بين أمواجها، بعدما استشعرت خطرا، وقلما أشعر بالخطر من السباحة في بحر رواية، لكن مجانين بيت لحم، شيء مختلف. ومن حسن حظي، أنني تنبهت باكرا، لضرورة تهيئة نفسي، قبل الغوص فيها إلى أعماق لا أضمن عواقبها على نفسيتي، ولا أدري من أي زاوية داهمني القلق: من انقلاب مفاجئ في مزاجي، أم من طبيعتي في التهام الورق! ربما خفت من المعرفة ليس أكثر، خفت أن أعرف أكثر، فالرواية، علاوة على أشياء أخرى كثيرة، هي معرفية بامتياز، لمن أراد ذلك.

حدثت أشياء جعلتني أتوقف عن القراءة دون أن ألقي الرواية من يدي، وأخذت استراحة أتعبتني أكثر، بعدما تشردقت عند النقطة التي انتهت بها حياة العبد علوي، انتحارا في برك سليمان. أجهدت نفسي في البحث عن إجابات لأسئلة قال الكاتب إنه لا يعرف، ولا أحد يعرف إجاباتها، فشعرت بالعطش، قهرتني يا عيسة، لا تقل أنك لا تعرف، هذه إجابة مجنونة يتقنها المجانين، أم أنك أيضا مجنون!.

قلت إنني قررت الانسحاب، لتهيئة نفسي والعودة من جديد، فلا يعقل أن أغرق في شبر ماء، وأستمر في النزول إلى الرواية. كيف سأنزل بعدما تشردقت على شاطئها عند انتحار العبد علوي! هل أنا مجنون لأفعل ذلك!. لن أغوص بدون أدوات السلامة العقلية، خصوصا بعدما تنبهت أن عائلتي أحست بشيء، فأخلت غرفة الضيوف التي أقرأ فيها عادة، قبل أن أطلب منهم ذلك بطريقة غير مباشرة، فأفرض على من يريد البقاء في ذات الغرفة لقضاء حاجة ما، قوانين صارمة، وأقول "ممنوع حدا يتخنفس/ ممنوع حدا يتنفس، لا تجننوني". لكنهم خرجوا وحدهم وبهدوء، وكأن لدي ضيوف بجد، أفسحوا لهم المجال ليأخذوا راحتهم في الجلوس، وتركوني وحيدا معك ومجانينك يا عيسة.

هل رأت عائلتي يوسف علان والعبد علوي وغيرهم يدقون باب البيت! ولهذا تركوني في غرفة الضيوف دون أن أطلب ذلك، أم أنا الذي رأيت الضيوف يغادرون الورق إلى الأرائك! بعدما استشعروا انحيازي لهم، لما قفزت وراء العبد علوي في البركة بغية إنقاذه، لا، أردت إنقاذ ما عنده "لا تمت يا علوي، أريد أن أعرف أكثر، أرجوك، أسامة لا يريد أن يتكلم، لا تمت".

وانسحبت فعلا بعد تشردقي بموت العبد علوي، وصمد انسحابي ربع ساعة دون أن أرمي الرواية من يدي، توصلت خلالها إلى تكتيك استراتيجي لمتابعة السباحة وقطع ما بقي من صفحات أجهل إلى أي عمق ستسحبني، والتكتيك أن أمشي على سطحها دون أن أغرق، تماما كما ادعى داهش بك.

لكنني غرقت، وانهار قرار قراءة الرواية بحذر، فهمت ذلك من وجع في صدري، وأنا أعيد وأكرر بعيني ومخيلتي هذا المقطع من الرواية: "وقفنا خارج باب القسم المغلق، وفي الجانب الآخر من الباب وقف معين وأصدقاؤه، وأخذ بعضهم، كأنهم بوغتوا بخروجنا وتنسمنا الحرية التي يفتقدونها، بتحميلنا سلامات وطلبات لأهلهم، منهم مجنون من دير غسانة، رأسه معصب بشاش طبي، فهمنا منه أنه أصيب بطوشة، فجُلب إلى الدير، في ظروف لم نفهمها. أوصانا مجنون دير غسانة بالذهاب إلى أهله حاملين قائمة توصيات تتعلق بشؤون الحرب والسلام مع عائلة الطرف الآخر في الطوشة. أما معظم طلبات المجانين التي سمعناها منهم متداخلة، فتتلخص برسائل لأهلهم بأن يأتوا ليزوروهم، ويخرجوهم. ودعنا معين وداعا أخيرا، ولحظت دمعة نزلت من إحدى عينيه، وهو يشفط سيجارته عمر الرديئة".

صديقي أسامة: وصل سلامي لمجنون دير غسانة، قل له لا تقلق، لقد حُلت الطوشة من طرفكم، أما من طرف الذين فشخوك، فالأمور في تصعيد دائم، دعك من التوصيات، لا نريد أن نخسر أكثر بسبب فشخة مجنون.

لم أستطع الانسحاب، وفشلت في المشي على سطح رواية تغريك بالغوص، وفي كثير من الأحيان كنت أرى كاتب الرواية مجنونا، لا يريد مما كتب سوى تجنين كل الناس الذين يصمدون في القراءة إلى ما بعد سفر التكوين، لكنني (وهذه مصيبة) لا أملك أي دليل على جنون أسامة الرسمي، فقط بعدما دققت في صورته المطبوعة على الغلاف، لفتني شعره المنفوش، ولم أجد أي صورة في حسابه بعد تلك الرواية بشعر منفوش، عندما كتب أسامة المجانين، كان مجنونا وجميلا أكثر مما كان، ومما قد يكون، إلا إذا أستمر في تجنيننا.

يا رواية الجنون، في الأرض المجنونة، كل العالم يلعب عليها، ورجالات "طرفنا" يلعبون على مجنوناتها وأرضهن، أي دهشة هذه يا ابن الدهيشة.


 

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق