بالقرب من
شارع الأنبياء، في القدس الغربية، تظهر في الأفق قبة كبيرة ملفتة للنظر، تستقر على
كنيسة دائرية، هي الكنيسة الإثيوبية، تحيط بها مساكن للرهبان والراهبات، وجميع هذه
المباني التي شيدت ما بين عامي 1874-1901م، يحدها سور، وأعطت الشارع اللطيف المؤدي
إليها اسم شارع إثيوبيا.
سلالة ملكة
سبأ
الكنيسة الإثيوبية
التي تستقطب السياح والحجاج، تؤشر على الوجود التاريخي للجالية الإثيوبية في القدس
وفلسطين، والذي لا يقتصر فقط على وجودهم في دير السلطان فوق كنيسة القيامة،
المختلف عليه مع الأقباط، ولاحقا تطور هذا الوجود ليشمل كنائس في مناطق أخرى مثل
بيت لحم وأريحا.
يعتقد الإثيوبيون
المسيحيون، بانهم ينحدرون من سلالة ملكة سبأ التي يعتقدون بانها احدى ملكاتهم، والملك
سليمان، وان ارتباطهم بالأرض المقدسة، قديم جدا.
يعلو الباب
الرئيس للكنيسة نقش بلغة (جيز) ينص: "انتصر الأسد من سبط يهوذا" وهو
تخليد لإمبراطور إثيوبيا منليك الثاني والتاريخ 1889م.
في باحة
الكنيسة، ينتشر رجال الدين بثيابهم السوداء، والنساء بأرديتهن البيضاء، ويمكن رؤية
امرأة تسجد بخشوع، على الطريقة الاسلامية أمام أحد جدران الكنيسة.
ويستلزم
الدخول إلى الكنيسة، خلع الحذاء، وهو كما يقول أحد الرهبان، من العادات الإثيوبية،
وداخل الكنيسة، يمكن رؤية المؤمنين وهم يصلون وقوفا أو سُجدا.
في وسط
الكنيسة يقع ما يسمى قدس الأقداس الذي يدخله فقط الكهنة ويوجد فيه مجسم لتابوت العهد،
وأعلاه، يوجد نقش باللغة العربية، يشير إلى البدء في بناء هذه الكنيسة على اسم
السيدة مريم العذراء، على يد ملك ملوك الحبش يوحنا (يوهانس) سنة 1874، وبلغ ما صرف
عليها 4000 ليرة، وبعد وفاته تم عمارتها من قبل ملك ملوك الحبش منليك الثاني عام
1885 وصرف عليها أيضا 4000 ليره.
وسط صخب
القدس، تعتبر الكنيسة الإثيوبية جزيرة ساحرة من الهدوء، شعار مجتمعها الأسد، تأكيدا
لانحدار المسيحيين الإثيوبيين من ملكة سبأ والملك سليمان، الذي قدم لها لافتة تصور
أسد يهوذا عندما زارت القدس، وفقا لسفر الملوك.
تتميز الكنيسة
بالأيقونات والجداريات لقديسي الكنيسة، ولمريم العذراء والطفل يسوع في افريقيا،
بعض الألوان بارزة بشكل لافت مثل الوردي والأزرق.
عادات وتواريخ
تعتبر الكنيسة
الإثيوبية، إحدى الكنائس الشرقية غير الخلقيدونية، وتتميز بمحافظتها على بعض
العادات التي يعتقد بانها من تأثير اليهودية، ويعتقد بعض الباحثين، ان هذا التأثر
سببه، ان المسيحية دخلت إثيوبيا مباشرة من فلسطين. ولإيمان ابناء الكنيسة وعددهم
يصل إلى نحو 50 مليونا منتشرين في مختلف دول العالم، بانهم من نسل ملكة سبأ والملك
سليمان. في تقليد الكنيسة الإثيوبية ان ملكة سبأ عادت حاملا من القدس وأن ابنها هو
منليك الأول، أوّل امبراطور أسطوري لإثيوبيا.
ويشعر أتباع
هذه الكنيسة بالاعتزاز، لوجودهم في الأرض المقدسة، رغم التحولات الكبيرة التي
شهدتها البلاد، خلال الاف الاعوام، ولتعرضهم للملاحقة في بعض الحقب التاريخية، حتى
في بلادهم.
تتوفر بعض المدونات
التاريخية عن الوجود الإثيوبي في القدس، فبعد الفتح الاسلامي عام 636م، اصدر
الخليفة عمر بن الخطاب فرمانا، حدد فيه حقوق المسيحيين في القدس من بينها حقوق
الكنيسة الإثيوبية.
الحجاج في
القرون الوسطى كتبوا عن الوجود الإثيوبي في القدس، مثل الراهب الدومينيكاني
بوركاردوس دي مونتي سيون الذي كتب سنة 1283، عن عادات الإثيوبيين وتقواهم. وفي عام
1347، كتب الراهب الفرنسيسكاني نيكولو دا بوجيبونسي،
عن وجود الإثيوبيين في كنيسة صغيرة على اسم السيدة مريم في كنيسة القيامة.
في العام 1838
عندما ضرب الطاعون القدس قُتل جميع الرهبان الإثيوبيين، في النصف الأخير من القرن التاسع
عشر بدأ وضع الكنيسة الإثيوبية بالتحسن في الأرض المقدسة، ويعود ذلك إلى حد كبير،
لتغير الاوضاع في إثيوبيا نفسها، التي وصل إلى السلطة فيها ملوك وحدوا البلاد تحت
إدارة مركزية واحدة. وعندما وصل الإمبراطور يوهانس للعرش، سعى لتحسين وضع الكنيسة
الإثيوبية في الأرض المقدسة.
كانت الكنيسة الإثيوبية،
تابعة للكنيسة القبطية في مصر، ولكنها استقلت عنها عام 1948، بعد عدة عقود من
الجهود، خاصة من جانب الامبراطور هيلاسيلاسي.
للكنيسة الإثيوبية
مدخلان، واحد للرجال والاخر للنساء، ومن العادات التي تمارسها هذه الكنيسة، هو
ختان الذكور بعد ثمانية أيام، ويوم السبت هو اليوم المقدس الثاني، ولا يقل أهمية
عن يوم الاحد، وتحرص الكنيسة على تقليد الرقص والعزف على الطبول الافريقية الكبيرة
في طقوس القداديس الإثيوبية، ويعبده البعض جزئيا إلى ما ذكره العهد القديم عن رقص
الملك داود امام تابوت العهد.
هوية منغلقة
رغم شرقية
الكنيسة الإثيوبية، ووجودها في مجتمع شرقي، لكن أعضاءها، لا ينخرطون كثيرا في
المجتمع المحلي، ويتحدثون فيما بينهم بالأمهرية، وكثير من الرهبان لا يجيدون العربية
ولا العبرية، بل ولا أي لغة أخرى.
يعيش الرهبان،
حياة بسيطة ومنظمة للغاية. يتناولون وجبات طعام مشتركة وحياتهم كلها تدور حول
خدمات الصلاة والأعياد.
يشارك الرهبان
في خدمات الصلاة التي تعقد مرتين يوميا بين الساعة الرابعة والسادسة صباحا، وبين الرابعة
والخامسة مساء، وتشمل الخدمات فترات طويلة من الوقوف، ويستخدم الرهبان عصي طويلة
للمساعدة على الوقوف، وهي تشبه التي تُستخدم من قبل الرعاة في إثيوبيا، وهم يرعون
قطعانهم.
يتميز أتباع
الكنيسة الإثيوبية بما يقدمونه في الأعياد مثل عيد الفصح في القدس، وعيد الميلاد
في بيت لحم، حيث يستخدمون الطبول الافريقية والرقص في هذه الاحتفالات، وداخل
الكنيسة الإثيوبية يمكن رؤية هذه الطبول على المقاعد تنتظر استخدامها.
الحاج
الالماني برنهارد فون بريدينباج وصف احتفالات الفصح عام 1502، وكيف يتجمع الرجال
والنساء في حلقات يرقصون ويصفقون، ويغنون حتى الفجر.
خارج خدمات
الصلوات العامة، ينقطع الرهبان والراهبات إلى الممارسات الروحية الخاصة، فالصلوات
الخاصة جزء مهم جدا من الحياة الرهبانية في الكنيسة الإثيوبية، في حين يفضل البعض
الاخر قضاء وقتهم في الدراسة. نعرف عن واحد أو اثنين من الرهبان اللذين انسحبا من
عالم الجماعة وانقطعا إلى التنسك الفردي. الأكثر شهرة راهب توفي في أوائل ثمانينات
القرن العشرين، يقال بانه لم يتكلم لمدة 30 سنة، وإذا طلب منه شيئا يرد كتابة.
واعتبر قديسا.
مجتمع ضعيف
في فناء
الكنيسة المحاط بأشجار السرو الشاهقة وأشجار الزيتون القديمة، يسير الرجال في
عباءات سوداء، والنساء في أردية بيضاء أو سوداء، يتدفقون بشكل يكاد يكون غير
محسوس، لا يقطع الهدوء سوى أصوات الطيور. الهدوء يستمر حتى منتصف النهار. ثم يبدأ ببطء
تجمع الرجال والنساء، الذين يحيون بعضهم بعضا، وهم يجتمعون لتناول وجبة طعام
مشتركة.
في السنوات
الأخيرة، اجتذب الحج إلى القدس المزيد من الناس من إثيوبيا، ولكن المجتمع الإثيوبي
في القدس ما زال ضعيفا، يناضل من اجل الاستمرار في الحفاظ على هويته. توجد مدرسة
صغيرة توفر تعليما باللغة الأمهرية، وتُدرس تقاليد المجتمع والكنيسة في إثيوبيا.
وصول أكثر من
30 ألف مستوطن يهودي من إثيوبيا إلى دولة الاحتلال، خلال السنوات الماضية، لم يؤثر
كثيرا في حياة المجتمع الإثيوبي المسيحي بالقدس، فرهبان الكنيسة الإثيوبية يعيشون،
كما كانوا منذ عشرات السنين، على جزيرة حيث تتغير حياتهم ببطء شديد. هذه الجزيرة صُنعت
أساسا من الايمان، وبدرجات وافرة من الرضا.
نادرا ما يُقطع
هدوء هذه الجزيرة، مثلما حدث في أوائل ستينات القرن العشرين، عندما صورت في باحة
الكنيسة، مشاهد من فيلم (الخروج) الذي أنتجته
هوليود للنجم بول نيومان، الذي مثل فيه دور اليهودي المقاتل الذي لا يقهر من أجل
الحرية، ضد العرب الهمج..!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق