يسعى الفنان الفوتوغرافي أحمد المحسيري إلى نقل روح ما يسميها "فلسطين التاريخية" ويقصد الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1948م، في معرضه "تحت شمس الجرح" الذي افتتح مؤخرا في غاليري بنك القاهرة-عمان في العاصمة الأردنية.
وقال المحسيري في اتصال هاتفي من العاصمة الأردنية عمّان، بأنه استوحى اسم معرضه الأوّل من قصيدة للشاعر الراحل محمد القيسي، ويضيف: "الجرح هو جرحنا كفلسطينيين، هناك أجيال متتالية غير قادرة على رؤية بلادنا، أردت تقديمها لهم، كي تبقى حية في الذاكرة الفلسطينية".
المحسيري ولد في أريحا لأسرة هُجرت من قرية بيت محسير، ذات الموقع الاستراتيجي على طريق يافا-القدس، خلال النكبة، لكنها لم تكن نهاية النكبات، إذ قدر للمحسيري ان يجرب مرارة فقد الوطن مرة أخرى، عام 1967. درس الكيمياء في بغداد، وتخرج عام 1980، وعاد إلى الأردن حاملا شهادته، وأفكارا سياسية، وفي بداية تسعينات القرن الماضي، هاجر إلى الولايات المتحدة الأميركية، ليعيد بناء سيرة مهنية أخرى له من جديد، التحق بجامعة شرق كنتاكي لدراسة الفنون، وتخرج بتفوق، ويقول بأنه لقي نفسه في التصوير الفوتوغرافي بالأبيض والأسود.
الوطن الذي عاش داخل المحسيري، ليس فقط من حكايات العائلة، ولكن أيضا بالأحلام التي غذاها بنشاط سياسي، بقي يشكل هاجسا للفنان الذي يسكن داخله.
يقول المحسيري بأن زيارته الأولى لفلسطين، كانت في عام 2000م، بعد غياب قسري لمدة 33 عاما، وبعد ثلاثة شهور من زيارته اندلعت انتفاضة الأقصى، وتكررت الزيارات لمدة ست مرات. كانت حصيلتها معرضه الذي اهداه إلى شهداء فلسطين، والشهيدين أسامة طوقان، وراشيل كوري.
يتذكر المحسيري بانه بدأ مسيرته الفوتوغرافية في القدس لمكانتها في قلوب الفلسطينيين، وانتقل إلى بيت لحم، لكن عينه كانت مصوبة إلى هناك، إلى الأراضي المحتلة عام 1948، ولا يخفي ان ذلك كان له بعد سياسي: "الوطن بالنسبة لي لا يمكن اختصاره في الضفة والقطاع، ثم في أجزاء مقطعة منهما، فلسطين بالنسبة لي هي كل فلسطين".
طاف المحسيري في حيفا ويافا وعكا والناصرة، وردا على سؤال ، اذا كان يخشى وهو صاحب الهدف السياسي الواضح ان يؤثر ذلك على فنية الصورة، قال: "لدي حساسية ما تجاه هذا الموضوع، لا أرغب ان اقدم عملا وطنيا فحسب، العامل الفني مهم بالنسبة لي، وكذلك توقي للتوثيق، رغم انني لا أستطيع ان أوثق كل شيء، حدث ان التقيت بالمؤرخ الدكتور جوني منصور من حيفا في بيت الصديق الشاعر ابراهيم نصر الله في عمّان، ورأى منصور ما صورته في حيفا، فقال لي بأن المدينة لم تأخذ حقها، وأنه لا يمكن اختصارها بمعالم مثل حديقة البهائيين، ونبهني إلى وادي الصليب، قائلا بأنه يتعرض إلى التغير السريع، فعدت من جديد إلى حيفا، لقد حاولت تقديم كل ذلك الألق والجمال والتاريخ وروح المكان في معرضي، لأجيال لم تر بلادها، أهدف إلى جعلها حية في الوجدان، والى تثبيت حق عودتنا إليها، عن طريق الكاميرا".
يسعى المحسيري إلى ان ينتقل معرضه في اكثر مكان، ويأمل ان تبادر وزارة الثقافة الفلسطينية، أوّ أية جهة إلى العمل على نقل المعرض إلى داخل الاراضي الفلسطينية.
يظهر في المعرض تركيز المحسيري على العمارة الفلسطينية، ووظائف هذه العمارة الحياتية والدينية، مثل المساجد والكنائس، وعن ذلك يقول: "أردت تخليد تلك اللحظات التي عاشتها بلادنا الجميلة، والوئام الحقيقي بين الديانتين الإسلامية والمسيحية، وإظهار بشاعة الاحتلال وظلمه، الذي يشيد المباني الشاهقة في يافا مثلا، بينما ما تبقى من ابنية عربية هناك نجدها معرضة للتآكل والسقوط".
لم تخل رحلاته إلى فلسطين من صدمات، مردها الفجوات بين صورة الوطن وتخيله والواقع: "بعد ان رأيت ما فعله الاحتلال من مصادرة واستيطان في الضفة الغربية، أيقنت ان الحديث عن عملية سلمية هو مضيعة للوقت، ولا بد من طرح حل الدولة الواحدة. في الضفة صدمت أيضا لأنني وجدت قطاعات واسعة من الناشطين والمثقفين، انخرطت في منظمات (الان جي اوز/ المنظمات غير الحكومية)، ولاحظت ان حجم الفساد والتلوث كبير، أما في داخل الاراضي المحتلة عام 1948، فارتحت اكثر في تعاملي مع الناس، لقد وجدت رغم كل التمييز العنصري وعمليات الاقتلاع المتواصلة، ان هناك الصحافي والمؤرخ والشاعر والفنان والمسرحي، وجدت لدى من التقيتهم صدقا اكثر وحسا وطنيا عاليا، الأمور عفية أكثر من الضفة".
المحسيري سعيد بنجاح معرضه، وبردود فعل الجمهور والنقاد ووسائل الإعلام، وحول الدور الذي يرى ان الصورة الفلسطينية يمكن ان تؤديه فنيا، يقول: "الصورة مظلومة في الفن العربي. ثقافة الصورة معدومة في مجتمعاتنا، والأسماء التي برزت قليلة، ففي فلسطين مثلا أذكر تجربة محمد حنون، الذي عاد إلى القدس ليقدمها من خلال عين الكاميرا، انا لا أفصل الصورة عن الفن التشكيلي وباقي الفنون، لقد حاولت أن أعكس في معرضي ما تلقيته من دراسة متقدمة، وآمل أن أكون قد نجحت ولو بشكل نسبي. ولقد أسعدني ان اسمع من جمهور وفنانين تشكيليين، وصفهم لصوري بأنها لوحات، نعم انا أرسم بالكاميرا".
وحول عدم وفائه للأبيض والأسود، وانجذابه للألوان والتقنية الرقمية يقول المحسيري: "أنا عاشق للأسود والأبيض، أظنها الصورة الأصدق، وتعكس القدرة الفنية، لكن الأمور لا شك تغيرت مع التقنيات الجديدة، أصبح بالإمكان الآن وبدلا من التحميض والطبع، استخدام الكاميرا الرقمية، وتحويل الصورة إلى أبيض وأسود، المهم هو دور الفنان، لقد وجدت نفسي في التصوير الفوتوغرافي، وانتقلت من الكيمياء التي تعلمتها في جامعة بغداد إلى كيمياء الصورة ".
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق