جميل ضبابات*
في تجربة روائية جديدة استعاد الكاتب الصحفي الفلسطيني أسامة العيسة، حكايات وأساطير المدينة التي صنعت هوية بيت لحم الحديثة عبر حاراتها، وناسها، والاحتلالات التي تعاقبت عليها.
وفي روايته الجديدة التي جعلت حجارة بيت لحم تتكلم لغة مؤلمة، يرصد الروائي الذي بدأ بمشروع روائي يغلب عليه طابع التشاؤم التغيرات الدراماتيكية التي حدثت لها خلال فترة قصيرة وتكاد تصل الى حد ملحمة اسطورية.
"بيت لحم. يا بيت لحم...يا قاتلة العشاق والأنبياء" هكذا انتهت الرواية، بنداء المدينة القاتلة. فالرواية التي صدرت مؤخرا عن دار الغاوون للنشر في نحو 300 صفحة رصدت تراجع النخب الثقافية التي قدمت نفسها بعد الاحتلال الاسرائيلي في حزيران 1967 كنموذج معين وتصارعت ما بينها لكسب الجماهير بتقديم وعود لها لكنها، وبشكل سريع ومفاجيء القت أسلحتها، وربطت نفسها ببرامج وأموال تاتي عبر الحدود، وهو ما لا يستطيع بطل الرواية رائد الحردان فهمه، عندما يجد مزايدي الأمس هم في طليعة المشاريع المثيرة للجدل.
يحضر في الرواية أشخاص باسمائهم الحقيقية، وذلك جزء من اللعبة الروائية، التي يمتزج فيها الواقع بالخيال، بالبحث الميداني الذي استمر لسنوات. يقول كاتبها: ان البحث عن الشخوص والأمكنة قاده الى اسطنبول لمعاينة مسجد السليمانية وقبري السلطان سليمان وزوجته خاصكي، وهي إحدى اساطير بيت لحم، التي ما زالت تؤثر في حياة المدينة اليومية من خلال ملكيتها لأراضيها.
قال العيسة: "مزجت في الرواية بين أسماء حقيقية، زججت بها في أتون الاحداث دون استئذانها، بعضها كان رحل عن عالمنا، والآخر ما زال موجودا، استخدام الأسماء الحقيقية هو ليس فقط جزءا من الشكل الفني للعمل الروائي، ولكن أيضا كنوع من التحية لهم".
"لم أحاول أبداً خلال كتابة الرواية السيطرة على شخصياتها، وهذا لم يكن في الواقع رغبة مني، بقدر ما ان هذه الشخصيات امتلكت منذ البداية القدرة على التمرد والاستقلالية، وأخذت تقودني. شكرا لها لانها كانت أبعد نظراً وعمقاً مني".
وأضاف: "الرواية تسعى لاستعادة هوية بيت لحم التي خبرها الراوي رائد الحردان، ويحاول التوقف عند هويتها التي نراها بعد عشرين عاما من الغياب خلف القضبان بانها تتغير، فوجد السينما وقد أغلقت، وتراجعت الحياة المدنية في المدينة، وتوارت الأفكار العلمانية حتى في المؤسسات الأكاديمية ".
تبدو الرواية محاولة للبحث ليس فقط في تاريخ المكان، بل ايضا بحثا عن هوية متطورة وفي حالة ديناميكية، هي رواية ليست فقط عن المكان ولكنها أيضا عن الهوية. وهي أيضا رواية تنبش في رماد الذكريات.
هي رحلة للكاتب في المكان، واكتشافه لخباياه، فقد حاول العيسة ان يشارك القراء في الاكتشاف ودهشته، بدون أية آراء أو مواقف مسبقة.
"درج الروم " هو البقعة الجغرافية المميزة في الرواية، هو واحد من أطول وأهم أدراج بيت لحم القديمة، سمي بذلك نسبة لكنيسة الروم الكاثوليك التي تقع بجواره، وتخص أولئك المسيحيين العرب الذي اعتنقوا الكاثوليكية، وفي الوقت ذاته حافظوا بتصميم على عروبة الكنيسة، ويفخر حتى رجال الدين الاجانب فيها بعروبتها.
"درج الروم" يوصل إلى شارع النجمة، وهو أهم شوارع المدينة التي تتحدث الحكايات على ان العذراء مريم سارت فيها، ودخلت من بوابتها الى مدينة بيت لحم، وهي تعتبر الآن مسار البطاركة الذين ياتون الى بيت لحم كل عام، وتم تسجيلها مع كنيسة المهد ضمن لائحة التراث العالمي لدى اليونسكو.
والعمل هو بشكل او بآخر تحية لشخوص المدينة الذين لوّنوا حياتها بهجة ومقاومة مثل جبرا ابراهيم جبرا، والبطل احمد عبد العزيز، وانطون دواد، وبِرت معلوف اللبنانية واحدى رائدات الحركة النسوية في فلسطين قبل النكبة، والتي واصلت مسيرتها رغم مقتل زوجها الدكتور في حوادث القتل العشوائي التي ترافق أعمال المقاومة.
الرواية حكاية حب لمدينة لم تعد كما كانت، وهذه حقيقة تقدمها الرواية بدون رتوش، انها قبلة بيت لحم الأخيرة، قبلة الوداع لزمن مضى، وحل محله زمن اخر، بعيدا طبعا عن دموع النستولوجيا الفجة، وانما وداع مؤثر وحقيقي لبيت لحم التي كانت، المدينة التي أطلقت للعالم رسالة السلام، ولكنها لم تنجح في صنع سلامها الخاص.
الراوي كلي المعرفة في الرواية، هو رائد الحردان الذي أمضى في السجن عشرين عاما، ترك مدينته وخرج ليجد أن كل عوالمه انتهت، هو جزء من حراك الحركة الطلابية النشطة في سبعينات وثمانينات القرن الماضي، تمثل حبيبته سميرة نموذجا اخر لمن نشطوا في ذلك الحراك، الذين انتهوا نهايات غير متوقعة أبداً، بقيادة منظمات ا'لان جي اوز' ( المنظمات غير الحكومية)، التي ما زال الكثير منها يثير جدلا في الساحة الفلسطينية.
قال العيسة: "لم يكن لدي أو لدى شخوص الرواية أية أوهام رومانسية عن واقع متحرك أو متقلب، ولكن يبدو انه كان فاجعا اكثر مما يمكن تصوره في اكثر الروايات جنوحا عن الواقع".
يقول كاتب الرواية "في بيت لحم مثلا التي كانت تمور بالحياة المدنية، فيها دور سينما رئيسة من اولى دور السينما التي تأسست في الضفة الغربية، تم في بداية الانتفاضة الاولى مهاجمتها بالحجارة وإغلاقها، زمن السينما الجميل في بيت لحم الذي صاغ وجدان أجيال من أبنائها انتهى هكذا بمزحة، بقرار، قد لا يهم ذلك الآن، ولكنه كان حاسما في وضع حد نهائي لعصر مدني في بيت لحم، التي صاغ مسيحيوها ومسلموها ثقافة واحدة، هي مزيج من تطورات الهوية الفلسطينية، وجذور يعود بعضها الى سبعة آلاف عام".
يبدو أن كل شيء من ذلك انتهى الآن. يُذكر ان الكاتب أسامة العيسة أصدر قبل سنتين رواية "المسكوبية" فيما انتهى من مشروع روائي جديد هو "مجانين بيت لحم".
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق