مادة ابداعية للصديق المتالق ابداعا محمد عبد ربه نُشرت في موقع قاب قوسين الالكتروني
http://www.qabaqaosayn.com
http://www.qabaqaosayn.com/node/575
لا أدري إن كانت هي الصدفة البحتة أم أنه الاشتياق إلى مكان كان مكاناً، وإلى ناس رحلوا عنه إلى مكان آخر، وبين المكانين رابط بصلة لا تنقطع منهما الذكريات.في المكان الأول ولدت ونشأت وكانت هناك حارة تعرف ب"حارة الشرف" قبل أن تزال عن الوجود، واليوم أعود إليها مستعيداً من ذلك الماضي بعضاً من الحكايات.أما في المكان الثاني الذي استقرت فيه عصا ترحالي، مذ كنت طفلاً في السادسة على تلة من بلدة شعفاط تبعد نحو سبعة كيلو مترات عن البلدة القديمة في القدس،فلي فيه ذكريات متصلة بمن رحلوا عن المكان الأول واستقروا فيه.ففيه كانت "حنان" التي أفتقدها اليوم وجئت إلى هناك لعلي أراها، لذا قادتني قدماي قبل أيام إلى موطن الذاكرة أفتش خلف كل حجر وزاوية عن متعلقات من ماض سحيق.وفي المكانين تغيرت الأشياء كثيرا. لم تبق "حارة الشرف" كما تركتها.لقد أعادوا تشكيلها وبنوا من حجارة بيوتها القديمة المهدمة بنياناً جديداً لمزراحي، وجدعون، وايتمار الوافدين من بروكلين.والمخيم الذي شهد تفتح زهرة الشباب، وكانت تحيط به التلال العامرة بالخضرة وشجرو السرو والصنوبر، ملأت تلاله بنايات الإسمنت والطوب حتى أنني لم أجد متسعاً لموطئ قدم وأنا أسير بين زقاقه. كما أن عقداً من الزمان مر على رحيلي منه لم يغير كثيرا من أحوال قاطنيه .ومن هنا تبدأ الحكاية...المكان: حارة الشرف.الزمان: عقود أربعة مضت كان لنا بيت عتيق وجيران وأحبة.أعادني المكان إلى حكايات وصور لم تمح من سجل الذاكرة.فالحاج محمد مسك (أبو رمضان) وكنيته "المصري" ما زال في مخيلتي يجلس على كرسي القش في المقهى القديم، بينما صوت "أم كلثوم" يخترق الأزقة، وأغنيتها "للصبر حدود" التي لم أع في حينها مدلول الكلمات ، كانت أجمل الأغاني أطير فرحا لسماعها بينما دخان النرجيلة و"التتن" يملآن المكان.ما كان يحيرني وأنا أقترب من بقايا المقهى القديم حيث كان يجلس "المصري" هو خوفي غير المبرر منه، فقد كنت أحسب له ألف حساب رغم إدراكي لطيبته.عدت إلى المكان ذاته الذي جمعني ذات يوم بـحنان بنت الجيران التي لطالما لعبت معها ولهوت، وطفقنا ننسج حكاية شقية عن أصغر عاشقين لم تنقصنا الجرأة، ولم يردعنا العقاب، لكن "حنان" كبرت وتزوجت و باتت تجر خلفها نصف فريق كرة قدم .الآن مضى على رحيلي من حارة الشرف أربعة عقود من الزمان، واليوم أعود من جديد.كل التفاصيل فيه تغيرت حتى حنان ما عادت تلك التي عرفتها، فقد سمنت كثيراً وباتت أكثر بدانة. أزقة التراب والطين اختفت لكنها ضاقت على ساكنيها، بينما الذكريات هناك لم تنطفئ أبدا بما في ذلك حكايتي ا مع "اللجن الطائر" .. وكان مضى على ترحيل أسرتي من "حارة الشرف" إلى المخيم أسبوع فقط.كان نصيب العائلة الكبيرة من المسكن غرفة واحدة فقط بلا منافع من حمام ومطبخ، فالحمام مشترك مع عشر عائلات أخرى، وفي منطقة خلاء كنت أخشى الذهاب إليه ليلاً خوفاً من العتمة والكلاب الضالة التي تتجول بحرية.. أما ماء الشرب فكنت أجلبه بالتنك وأباريق البلاستيك، من عين استحدثتها وكالة الغوث وكانت مسرحاً لاشتباك بالأيدي وموقع نزال بيني وبين أترابي من جهة وبين نسوة الحارة أنفسهن من جهة أخرى.في ذلك اليوم خلعت ملابسي وقفزت في "اللجن" كي لا يسبقني إليه شقيقي الذي يصغرني بثلاثة أعوام، ولم يخطر في البال بأنني سأطير عارياً بينما صبية الحارة ومعهم حنان يضحكون بلا انقطاع إلى أن استقر "اللجن" في قعر المنحدر، ولما يتوقف ضحك الأقران فيما خرجت مهرولا "ربي كما خلقتني" أواري سوءتي.. يا لعاري!في زيارتي الأخيرة للمخيم داهمتني تلك الذكرى، وأنا أمر من المنحدر ذاته الذي شهد أول حادثة طيران أرضي.حكاية عمرها عقود أربعة لم تمح أبدا كغيرها من الحكايات عن والدي العجوز المكافح، الذي قضى أعوام عمره شقياً مشقياً بي وبإخواني: "خيك قرشك، ما في البر خلان" هذا ما كان يردده دوماً على مسمعي ومسامع أشقائي في الحض على الكفاح والمثابرة والاعتماد على النفس، وقد ذاق الأمرين في رحلة شقائه الطويلة من "اللويبدة" الخربة البعيدة المغتصبة على خاصرة دورا بمحافظة الخليل، قبل أن يلحقها الاحتلال بحدود بيت العنكبوت، إلى أن انتهى به المستقر بعد النكبة في "حارة الشرف" سقاء يوزع ماء الشرب على البيوت العتيقة.كانت هجرتنا الأولى من الأرض الخصبة الندية المزروعة بالخروب والبلوط والزيتون المبارك،وتلالها مكسوة بالزعتر والشيح والحنون الأحمر ، وبأعشاب التطبيب يأتيها الناس من المدن البعيدة في الساحل القريب من يافا وحيفا ومن عكا العصية على جحافل الغزاة.كان العجوز لا يمل الحديث عن خربته الصغيرة، وحين يهطل الدمع كالمطر من عينيه وتخنقه العبرات، كنت وأشقائي نتسمر في المكان بجواره ننشد منه المزيد. أدركنا ونحن صغاراً أن له في ذلك المكان ذكريات من طفولة ، فهناك "حماد" شقيقه الأكبر و"عامر" الذي يصغره بعامين، وكانت الشقيقات "جبينه" و"حاكمة" و"رسمية" كل جمعته بهم أجمل الذكريات، حتى حين كان الجد المنحاز لبكره "حماد" يفاضل بين الإخوة.أما دفء الطابون في "اللويبدة" والرائحة المنبعثة من خبز القمح والشعير بالنسبة إليه، فإنها هي هي لم تغادره رغم عقده التاسع.لطالما حدثنا عن رحلة خروجه تلك ولما يرتبط بشريكة حياته.حين غادر الخربة البعيدة أتى القدس القديمة مشياً على الأقدام، وفيها كان أول لقاء جمعه بالرائعة المؤمنة الصابرة وشريكة كفاح لم ينقطع إلا بانقطاع الوجود في الحياة القصيرة.يا لها من ذكريات لا تنقطع، ويا لعذابات من رحلوا ومعهم حكايات من قدسنا العتيقة، ومن حارة الشرف التي جاورنا المغاربة فيها لسنين طويلة في حارتهم، التي سواها المحتلون بالأرض يوم أن سقطت القدس بقبضتهم. وخرت أسوارها تبكي دما ودمعاً، وجاس المحتلون خراباً في الديار.يوم ذاك وقفنا نمسك بأطراف قمباز العجوز نبكي هلعا وخوفا، بالكاد أخفى عنا دموعه وهو يرى البيوت تنهار على وقع أنياب الجرافات، لتبطش بكل ما هو جميل من تاريخ المدينة وذكريات ناسها. كل ما أراده آنذاك هو حماية الركن الصغير في أقصى الحارة التي تسلل إليها المغتصبون، وشرعوا يجمعون الناس يلقون عليهم تعليمات الخروج إلى مكان آخر كانوا هيئوه لهم .كان المخيم على تلة شعفاط قد شيدت منازل الطوب فيه قبل أن تسقط القدس. هل كانت صفقة لم يع الناس آنذاك تفاصيلها، وهل كانت مؤامرة لتسلم المدينة المقدسة بلا قتال..لكن الحياة لم تبدأ بالخروج من هجرة أولى إلى لجوء جديد، ولم تنته بمن رحلوا إلى دار الحق وتركوا خلفهم من تفاصيل حياتهم ما لا ينسى، مثلما لم تبدأ حكايتي بـ"اللجن الطائر" ولم تنته به.عقود أربعة ما زلت في مكاني مثلما كنت في لحظة الطيران الأولى، عارياً أبحث عن مكان لي في القدس وفي حاراتها العتيقة ، لكنني الآن أقف كاسياً عارياً ومن كل شيء، في المشهد القديم ذاته، أفتش عن آثار من رحلوا، وعن مغزي وجودي.. حكاية لا تنتهي. طالما أن رحلة الطيران في "اللجن" لم تتوقف، فقد بات المكان حيثما أكون شبيهاً بذلك "اللجن" طائر فيه وحدي إلى قعر منحدرات أخرى.
*كاتب من فلسطين.**"اللجن": وعاء ضخم من الحديد والألمنيوم يستخدم للاستحمام، وفي رواية أخرى "جاكوزي متحرك"!.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق