يعيدك أسامة العيسة إلى محاولة قراءة تاريخ المكان من زوايا المهمَّشين وحالهم وأحوالهم بدون تكلّف، وبلا استبعاد للواقع مهما كان فجًّا أو منهكًا أومعتلًا، بل بانصهار تام مع حياة العاديين الذين نحن منهم، الأمر الذي يدفع فيك كقارئ الفضول إلى ما هو أبعد من رؤيته وروايته. إنه انتصار الراوي والروائي الذي يفتح أمامك فصلًا آخر يكسر جمود سرد التاريخ اليابس، حين يربت على كتف قارئه/قارئته، وكأنه يقول له: لا تأخذ التاريخ مسلَّمة من مسلَّمات الحقيقة الكاملة، بل افتح ذراعيك وعقلك لاستكشاف ما هو خلف الأشياء، وامتحن صبرك في النحت والبحث من أجل نجاة أسئلتك المشروعة، لعل مصادفة تأخذك إلى الحقيقة الغائبة أو المُغيَّبة أو المسكوت عنها لأي سبب كان في زمانها المتعثر بالغزاة والمحتلين الأغراب. ولأن زمان القدس مليء بالملوك والقادة والوجهاء والأعيان، فإن حكايات العاديين البسطاء هي التي تغيب عن كل حكايات الزمن البعيد، فنجد العيسة يستحضرها ويعيدها بذات المعنى، في صورهم المعتادة من دون تكلف، ويمشي بنا في نواحي النفس وأزقة المكان.
صالحة التي أجفلت قاضي المحكمة الشرعية حين وجدها تدَّعي على شاب قالت إنه "أزال بكارتي بطريقة غير شرعية"، من هنا تبدأ حكاية صالحة في رواية أسامة العيسة الأخيرة بنت من القدس الجديدة، وللاسم دلالة واضحة تكشف عنها صفحات العمل الروائي الذي جاء مكثفًا بدون أي إطالة في صفحاته أل157 من القطع المتوسط، فبين القدس القديمة والقدس الجديدة حكايات داخل السور وخارجه: القطمون، وحي الطالبية، وسلوان، وباب العامود، وكأن القدس في سرد العيسة أكثر من مكان مقدس، أو مكان تراثي وحضاري، أو مكان من حجارة وحفر ونحت ونقوش الغزاة والطغاة والحالمين، لأن العيسة يلتقط ما هو أبعد وأعمق مما هو ظاهر للعين المجردة والفكرة الواحدة، فهو يتقفى الأثر ويسير خلفه، وليس فقط في هذا العمل الروائي، بل في أعماله السابقة، وعلى وجه التحديد سماء القدس السابعة الصادرة عن دار النشر نفسها، وهي دار المتوسط.
إنه شأن صالحة التي كشفت عن قضيتها بكامل إرادتها، وصدح صوتها في المحكمة، غير آبهة بما يقوله المجتمع، متمسكة بأخذ حقها ممن «أزال غشاء بكارتها»، الكلمة التي دوَّت في المحكمة وجعلت القاضي يكلِّم نفسه باستغراب ودهشة، فما من قضية مشابهة في سجلات المحكمة الشرعية في القدس، أو حادثة كتلك الحادثة، حيث تعود القضية إلى زمن قدوم الاستعمار الإنجليزي إلى البلاد، وانتهاء زمن بني عثمان كما جاء في وصف الكاتب. مآلات الواقع الزماني تشير إلى ما قد يسكن النفوس بين زمانين، والآمال العريضة والبسيطة، وإلى ظرف التغيير المأمول الذي قد يراه المهمشون انتصارًا لحقوقهم التي يمكن أن تُسترد، أو لا تسترد بفعل القوة التي لا تزال هاجمة عليهم.
حكاية صالحة تدور أحداثها مع بداية الانتداب البريطاني لفلسطين، والتي يشير لتلك الحقبة الكاتب بتسمية احتلال أبناء التايمز لبلادنا، لكن الكاتب لم يغفل أن يدخل عميقًا إلى زمن أبعد من بدايات الانتداب، كضرورة من ضرورات الاشتباك الحياتي بين الماضي والحاضر، لأبناء القدس وبناتها في دورة الأجيال وتتابع الأزمان، وصولًا إلى زمن القدس الجديدة المحتلة من قبل عصابات الهاغاناة وشتيرن والذين سيصير لهم دولة وجيش وشأن يخيف المحيط، وسيقيمون معاهدات سلام وتفاهمات مع الجوار واتفاقيات هدنة وتحالفات.
تجوب الرواية بين الأمكنة والأشخاص في حكايات الأيام والناس البسطاء العاديين بمشكلاتهم وظروف حياتهم، فنجد البقعة وحي القطمون والطالبية في القدس الجديدة التي بدأت تبنى خارج السور القديم ببيوت ناسها التي ستسرق من قبل الغزاة بعد حين، كما نجد حكايات السكاكيني وإميل حبيبي وآخرين من رواد الثقافة والأدب، وكأن زمن القدس لا يتوقف عند المكان، بل يأبى إلا أن تحضر الأسماء كشواهد في مشاهد دورة حياة القدس الجديدة التي بُنيت خارج السور القديم رغبة في الحياة والتطور الحتمي للمدن العتيقة.
سرد العيسة الذكي يجعل القارئ منشغلًا معه في تفكيك حبكة الحكاية وتتابع الأحداث بين العام والخاص، كما أن لغته التي باتت صنيعته، وهو ينحت صورًا بحرفه المعهود من الطراز الأنيق، تجعل الرواية وفيرة الأحداث المتماسكة، وغنية بالشواهد المكانية والتاريخية والزمانية واللغوية، حيث تطوف بالقارئ بين أزمنة وحقب تاريخية ونزوات أفندية جهوية ومحلية، وانطباعات كانت سائدة، ظلت سائدة، وقد تبقى سائدة للأبد.
يلتصق العيسة بالقدس أكثر، قدس المهمَّشين، وقدس المجانين، وقدس العاديين، لا قدس الوجهاء والولاة وأصحاب النفوذ، فهو يدخل القدس من بوابات العاديين وأسواقهم وحاراتهم، ويحاكي تفاصيل المكان والناس والاحتلالات، ليفتح الباب أمام أسئلة خاصة وعامة لا تزال تراوح مكانها. وتمامًا، فقد صار معلومًا أن العيسة في أعماله يستدعي التاريخ من باب إعادة قراءة الأشياء بصور أخرى، خارج الجمود والتسليم بما هو معروف ومعلوم، وفي الوقت ذاته فإنه يوظف هذا الاستدعاء لخدمة عمله الروائي، بدون تكلف أو تصنع، بل بطريقة تجذب القارئ، وبلغة سردية شيقة وأنيقة.
بنت من مدينة القدس الجديدة، رواية عذبة من الطراز الرفيع، تحكي واقع الناس البسطاء العاديين في القدس أبان فترة الانتداب البريطاني، حيث انتهى حقبة زمن الحكم العثماني وجاء حكم أبناء التايمز على حد وصف الكاتب، وهي ترصد التحولات بين زمانين جاء بعدهما زمن الاحتلال الذي اتخذ من احتلال القدس مكانة له بين قديمة وجديدة، فهذه الجديدة أخذها مساحة هامة في البداية لزرع هويته المزيفة في أرض مسروقة من أبنائها وناسها وأهلها ونسَّاكها ومفكريها وأفندييها ومريديها.
إنها رواية صالحة، بنت جميلة وشابة يافعة لم تتنازل عن حقها المسلوب، ولم ترهبها عادات وتقاليد أهل المكان الذين هم أهلها وناسها، بل أخذت لنفسها مكانة من الحرية لتمسح عنها لوثة التنازل عن الحق، حقها الذي انتزع منها، غير آبهة بالقيل والقال، مستعدة لمواجهة قدرها، وعاقدة العزم على مواصلة المطالبة بحقها في القضاء الشرعي والقضاء الكنسي والقضاء المدني، طامحة بأن القضاء بكل أصنافه ينصفها ويعيد لها حقها الذي انتزع منها، بيد أن بعض الحقوق تضيع، حقوق البلاد وحقوق العباد.
بقي لي أن أقول هذه الرواية صوت من أصوات العاديين مثلنا في القدس، وفيها نسيج حقيقي وواقعي، وخيط غير مرئي يمسك الرواية من أول صفحة إلى آخر الصفحات والذي يجعل القارئ يعيش معها من دون انقطاع، فهي من الروايات التي تقرأ دفعة واحدة في ليلة واحدة، وقد تقرأ على فترات ومحطات متباعدة بحيث لا تضيع المعنى والحبكة والسرد المنتظم، كما أنها لا تشتت القارئ رغم ما بها من انحناءات تاريخية هنا أو هناك، وقد جاء في كلمة الناشر على الغلاف الخلفي،" صالحة ابنة حيّ البقعة، فتاة جميلة، ومثقفة، ومتمرد، تذهب إلى المحكمة لتطالب بثمن بكارتها، التي أزيلت دون وجه حق، كما تقول. فهي ليست ضحية، بل صاحبة حق. تقف وحدها في مواجهة قاضٍ ومجتمع وميراث طويل من التواطؤ والخوف".
هنيئًا للقدس بمن يكتبها وهنيئًا للكاتب الذي يكتب هذه القدس، قديمة وجديدة، داخل السور القديم وخارجه، شبابها وبناتها، شيبها ونسائها، حاراتها ومقاماتها، حواريها وشوارعها، أسوارها ومقدساتها، وهنيئًا لأسامة العيسة الروائي القدير الذي يكتب القدس مرّة أخرى، بهذا الشكل الشجي السخي، العميق والمغاير، الغارق في نحت المكان والزمان، المبهر بصورة بطلته الصالحة، وهنيئًا لنا لأننا نقرؤك.

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق