في عام 1994،
جلست بجوار يوسف جبرا، في عزاء شقيقه الاصغر جبرا إبراهيم جبرا، في منزله في شارع
النجمة في بيت لحم، لم يكن هناك عدد كبير في العزاء، في الواقع كان يمكن إحصاء
العدد على أصابع اليدين، أو ربما يد واحدة كانت كافية، حضر الصحافي جاك خزمو وزوجته
الكريمة من القدس، ويوسف وزوجته الحنونة، وربما سميح مراد ابن شقيقة جبرا، ومعلم
الموسيقى، الذي تعلمت على يديه مباديء العزف على الجيتار في وادي الجوز بالقدس.
ولكن لحماقات متأصلة بي، يبدو انني فضلت العزف النشاز بالحجارة، ولم أصبح موسيقيًا
كما أملت وأحببت.
جلست أكثر من
مرة مع يوسف في المنزل، ودار بيننا كلام كثير عن جبرا، سجلته ونشرته. دور يوسف في
تكوين جبرا، غير معروف، رغم أهميته ثقافيا، وحياتيا، وهو ما كان يدركه جبرا الذي
كتب على نسخة (البئر الاولى) التي قدمها لشقيقه يوسف هذا الاهداء: "إلى أخي
الحبيب الذي لولاه لما امتلأت بئري الأولى هذه أبدا، مع حبي".
لا يقل يوسف
ذكاءًا وولعا بالفنون والأدب من جبرا، ولكن كان عليه كأخ كبير، أن يخرج من المدرسة
ليعمل نجارا لمساعدة شقيقه. وفي إحدى المرات، أصر جبرا على ترك المدرسة لمساعدة
العائلة، فتصدى له يوسف، موبخا وناهرا:
- أنا اتعب
لتصبح في النهاية عتالا على التلة؟؟.
والتلة التي
يقصدها يوسف، هي تلة باب الخليل بالقدس، حيث كان يتجمع العتالون لنقل البضائع
للناس. يوسف هو الابن البكر في العائلة، وكان عمره ست سنوات عندما قدم مع والده من
تركيا اثر مذبحة السريان هناك. وكان عليه أن يعمل، ليساعد والده في إعالة ثمانية
أشخاص يعيشون في غرفة واحدة، وبعد سنوات أصبح المعيل الأساسي للعائلة، خصوصا بعد
أن صار معلما بالنجارة ويكسب 25 قرشا كل يوم وهو مبلغ له قيمته آنذاك (كما قال لي).
بعد سفر جبرا،
وموت الأب والأم وتشتت العائلة، بقي يوسف، الذي لم يرزق بأولاد يعيش مع زوجته التي
يشع وجهها طيبة وحنانا، ومع ذكرياته التي جمعته بشقيقه جبرا، الذي طالما وصفه بأنه:
كان وديعا جدا ومسالما، لم ينخرط في النشاط السياسي في فلسطين، وكان يستهويه الشعر
الوطني، وخصوصا شعر عبد الرحيم محمود" وعلى استحياء وبتردد: "لم يكن
مهتما بشؤون الدين". وفي غرفة الاستقبال القديمة كان يوسف يعلق آلة أكورديون
قديمة جدا، اشتراها عام 1936، بأربعة جنيهات ونصف من شارع يافا بالقدس الغربية،
وكانت مثار اهتمام كبير من قبل شقيقه جبرا في ذلك الوقت، الذي كان مولعا
بالموسيقار باخ.
وليست هذه
الآلة التي جلبها يوسف إلى المنزل هي التي أدخلت الفرح إلى نفس جبرا الصغير فقط،
ولكن أيضا الكتب التي كان يشتريها بقروشه القليلة، مثل سيرة عنترة وسيف بن ذي يزن
ومجلات مصرية أخرى.
ورغم أن
البداية كانت مع هذا النوع من القراءات، إلا أن جبرا دشن حياته الأدبية بكتابة
الشعر بالإنجليزية، وأخذ ينشر قصائده في مجلة (الفورم) بالقدس في الأربعينات، وفي
تلك الفترة كتب مسودة روايته التي نشرت فيما بعد باللغة الإنجليزية (صراخ في ليل
طويل)، واثر صدورها كتب عنها الناقد مارون عبود معتبرا أنها تتفوق على رواية طه
حسين (دعاء الكروان).
ومنذ ذلك
الوقت، ويوسف كان يحرص على قراءة كل شيء يصله من أدب شقيقه أو ما يكتب عنه، واحتفظ
بملف يحوي عشرات القصاصات من الصحف العربية والإنجليزية تتناول أدب جبرا.
وكان اللقاء
الأخير بين الشقيقين قبل موت جبرا بأشهر، في العاصمة الأردنية عمان، حيث بدا جبرا:
"في كامل لياقته الذهنية والبدنية، ولم يكن يشكو من شيء"، كما لاحظ
يوسف.
وفي تلك
الزيارة، جاء صديق جبرا، الروائي عبد الرحمن منيف، من دمشق ليراه، وجلسا معا ساعات
طويلة لا يكفان عن الحديث والنقاش، وكان جبرا مشغولا بكتابة الجزء الثاني من سيرته
الروائية (شارع الأميرات)، عن حياته في العراق، واختار لها اسم الشارع الذي أقام
فيه في بغداد حتى وفاته. وقبل أسبوعين من وفاة جبرا، وخلال اتصال مع أخيه يوسف،
أخبره انه كتب في أسبوع واحد نحو 200 صفحة من (شارع الأميرات).
في معرض جبرا
الفني الذي افتتح في كلية دار الكلمة في بيت لحم مؤخرا، ثمة طاولة صنعها النجّار
يوسف، بفنية عالية، ورسم عليها جبرا، وقد تكون تعبيرا رمزيا عن ما جمع الشقيقين.
يوسف غادر بيت
لحم منذ سنوات، ورحل بعيدا عنها، وهو إحدى الشخصيات التي استحضرتها بالاسم في
روايتي (قبلة بيت لحم الأخيرة). وليسامحني، وهو الذي لا يحب الاضواء، لأنني زججت
به في أتون سردية طموحة عن بيت لحم. التي أعطت العالم رسالة السلام، ولم تتمكن من
صنع سلامها الخاص.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق