أهلين

"من عرف الله سار، ومن سار طار، ومن طار حار". عجيل المقدسي.

الأربعاء، 10 أكتوبر 2012

لا يجب أن يُسمح للموضوع الفلسطيني أن يطغى على فنية القصة

أجرى اللقاء/ غياث ناصرشدّد الأديب أسامة العيسة على أنه لا يجب أبداً أن يُسمح للموضوع الفلسطيني أو أي موضوع أن يطغى على فنية القصة، «هذه كارثة برأيي», وقال في لقاء مع «فلسطين المسلمة» إن الأدب ليس نقلاً أو حتى انعكاساً للواقع، أو صورة عنه، إنه نتاج مخيلة إبداعية. والشخصيات «الواقعية» عندما تظهر على الورق، تُخلق من جديد، وتجهد لتحديد مصيرها بنفسها، وأحياناً بشكل مستقل عن الكاتب.
والأديب أسامة العيسة كاتب وباحث وصحفي صدرت له العديد من الكتب أهمها: رواية «المسكوبية - فصول من سيرة العذاب»، و«مخطوطات البحر الميت - قصة الاستكشاف»، وقصة اغتيالات قادة انتفاضة الأقصى، «كم طلقة في مسدس الموساد الإسرائيلي», كتاب «كيف الحال أنا مشتاق لك», «من خان آيات الأخرس؟»، « وثائق وأسرار أبو عمار»، وكتب أخرى.

- تكتب القصة والرواية، فضلاً عن البحث في التاريخ والتراث، أين أنت من كل هذا؟ قد يكون ذلك بسبب تنوّع الاهتمامات، لكن أيضاً ربما يعود إلى الفضول المعرفي، أردت، وما زلت، ولم أصل إلى نهاية الطريق، وأظنني لن أصل، أن أعرف هويتي كفلسطيني التي ورثتها بالجينات، ولكنني أريد معرفة كنهها معرفياً. وبصراحة لم أجد ما يساعدني على ذلك في الكتب التقليدية، سواء المدرسية أو تلك التي وضعها ويضعها أجيال من الكتاب «القوميين» أو «الوطنيين» أو «الإسلاميين»، إنهم يكررون أنفسهم، ينتجون، ما ينتجونه على المكاتب. ويخيّل إليّ أن حياتي قد لا تكون أكثر من رحلة، لن تكتمل، بحثاً عن الهوية.

- أشار العديد من النقاد إلى روايتك الجميلة «المسكوبية»، واعتبروها عملاً مختلفاً ومتميزاً بالنسبة لـ«أدب السجون»، وسؤالي هو لماذا كانت هذه الرواية وكيف تراها أنت؟ أظن أن أسوأ شخص يمكن أن يتحدث عن عمل له، هو الأديب نفسه، ولكنني مثلما حاولت دائماً ان أكون صادقاً، في ما أكتبه، فعلت ذلك في «المسكوبية».
بالنسبة لي لا وجود في فعل الكتابة لأي نوع من الكذب، قد يكون هناك نوع من الكذب، أمارسه أنا ويمارسه غيري في الحياة، خارج النص الأدبي، نتحدث بلغات مختلفة، في البيت، وفي المكتب، والشارع، نرتدي أقنعة مختلفة، ولكن بالنسبة للأدب فإن الأمر مختلف، وقد يكون هذا أحد الأسباب الذي جعلني أؤخر نشر بعض أعمالي التي كتبتها في عقد التسعينيات حتى الآن. المجتمع قد يتسامح مع أي شيء، إلا الأفكار المختلفة، فأقول علناً ما أقوله سراً.
أعلم أنه في العالم العربي، قطع الكُتّاب شوطاً مهماً لا يمكن إنكاره في كتابة إبداعية تحقق شرطها الفني والتاريخي، ولكن في الأراضي الفلسطينية، فإن الحركة الثقافية تراوح مكانها، ولا مكان فيها لكتابة مختلفة، إلا فيما ندر. وأعجب كيف يتم الترويج لكتابات هي دون المستوى، ويصبح كتّابها، لأسباب غير إبداعية، ضيوفاً على وسائل الإعلام الفلسطينية، وهي وسائل إعلام غير مستقلة، وإنما متحزبة.

- أشرت إلى إنك استندت في كتابتك للرواية إلى بحث ميداني وتاريخي أنجزته اعتماداً على الرواية الشفوية والمدونات الخاصة والمذكرات، حتى تمكنت من تناول قضية الأسرى خارج الصورة النمطية التي قدمها الأدب الفلسطيني والعربي، وحاولت رد الاعتبار لإنسانية الأسير الفلسطيني، هل يمكن إيضاح تلك النقطة؟ لا توجد كتابة، أدبية أو بحثية، أو صحفية حقيقية، خارج البحث الميداني. رواية «المسكوبية» هي بشكل أو بآخر رواية مكان، كما لاحظ ناقد مستقل أعتز به كثيراً وهو الدكتور عادل الأسطة، والمكان الفلسطيني، غير مكتشف، ماذا نعرف عن أمكنتنا؟ لا أريد الإجابة عن السؤال، لأنها ستكون فاضحة، ماذا نعرف عن القدس؟ عن بيت لحم؟ عن رام الله؟ عن نابلس؟ عن جليلنا، عن نقبنا؟ ماذا نعرف عن طقسنا، وعن نباتاتنا، وعن حيواناتنا؟
أي كاتب في الغرب مثلاً، تخضع دار النشر مؤلفه، للجنة قراءة، وبحث وتدقيق في معلوماته. في بلادنا يمكن أن تكتب أي شيء، وتنتمي لعصابة أدبية، أو سياسية، لتصبح كاتباً يشار إليك بالبنان.
أتعرض بشكل دائم للخديعة، أقرأ ما يقوله الأدباء والنقاد عن عمل أدبي، وعندما أبحث عنه واقرأه، اكتشف بأنني كنت مخدوعاً، وأن من كتب تقريظاً له إنما فعل ذلك مجاملة لصاحبه.
قد يساعدنا البحث الميداني، والاستعانة بعلوم أخرى، كالتاريخ، والجغرافيا، والآثار، والميثولوجيا، وعلم النبات، والحيوانات، والطقس، والفلكلور، والأساطير، على معرفة القليل لكي نبدأ الكتابة، وهذا ما أفعله في ما أكتبه، وليست «المسكوبية» استثناءً، وإن كان زملائي الكتّاب والنقاد الذين قرأوا العمل، قدّروا ذلك، ومعظمهم سألني: من أين أتيت بكل هذه المعلومات؟ رغم أن الرواية كعمل إبداعي، كما تعلم ليس فقط معلومات. الكتابة فعل جدي، بل بالغ الجدية، مثل ما يجب أن يكون عليه أي عمل آخر، مثل تشييد بناية، الرواية بناية، ومعمار، يستلزمها تخطيط هندسي، واختيار مواد البناء، ومعرفة أين يمكن وضع هذه اللبنة أو تلك.


- تزدحم قصصك بالكثير من الشخصيات، ويبدو حبّك لها واضحاً, الفلسطينية منها بالطبع، أليس ذلك انحيازاً يضر بموضوعية العمل الأدبي؟ أعتقد أن الشخصيات تحاول أن تمتلك مقومات التطور الذاتي، وتستقل عن الكاتب، الذي بدوره قد يرتكب حماقة، للوقوف في وجه هذا التطور، لعلني فعلت ذلك أحياناً. أنا متأكد بأنني ارتكبت الكثير من الحماقات، سواء فيما كتبته أو فيما عشته ولم أكتبه. وربما هذا ما جعلك تتساءل عن الضرر الذي أصاب العمل الأدبي.

- لماذا لجأت إلى تكرار ظهور بعض الشخصيات في غير قصة من قصص مجموعة «انثيالات الحنين والأسى» مثل أبي تيسير، والحاجة نفيسة، وباسل؟ هذا جزء من اللعبة الفنية في هذه المجموعة، ومحاولة لإعطاء هذه الشخصيات مساحة أوسع لتقدم نفسها، للقراء، بعد أن حرمتها ظروفها القاهرة من أن تعبر عن نفسها، بعد سنوات قضتها في الدفاع عن وجودها الواقعي، بعد تعرضها للتطهير العرقي، وفقدان أرضها، وكيانها، وتبعثر هويتها. قصص هذه المجموعة عن أجيال من اللاجئين الفلسطينيين، تتقاطع مصائرهم، على خلفية العواصف العاتية التي ما زالت تضرب الأرض المقدسة.

- يرى البعض أن اعتمادك تتابع الحكايات في القصة الواحدة جعل شكل القصة فضفاضاً بحيث يمكن إضافة حكايات أخرى أو حذف حكايات، مما أضعف بنيان القصة؟  الشق الأول من السؤال أتفق معه، ولماذا لا تكون القصة «فضفاضة»؟ لماذا لا يكون على القارئ أن يقول الكلمة الأخيرة فيما قرأه؟ مرة أخرى هذا جزء من لعبة فنية لدي شكوك في نجاحها، وهذا ما يبرر القسم الثاني من سؤالك.

- إلى أي مدى يسمح للموضوع الفلسطيني أن يطغى على فنية القصة وشكلها، خاصة أن البعض يتهم النص الفلسطيني بأنه مباشر وانفعالي؟ لا يجب أن يُسمح للموضوع الفلسطيني أو أي موضوع أن يطغى على فنية القصة، هذه كارثة برأيي، وإذا كان ما ذكرته هو رأي البعض فيما كتبته فإنني احترم هذا الرأي، وسيكون حافزاً لي لإيلاء الفن الأهمية القصوى، فلا أدب جميل خارج شكله.
إذا أراد أحد أن يكتب بشكل مباشر وانفعالي كما تقول، فليكتب بياناً، ويصدر تصريحاً!!
بالنسبة لي كل عمل هو، أولاً وقبل أي شيء، مغامرة في الشكل الإبداعي، وإن لم يكن كذلك فلن أكتبه مهما كان الموضوع مؤرقاً.


- كتب الكثير عن مخطوطات البحر الميت، ما الجديد الذي أضفته في كتابك «مخطوطات البحر الميت قصة الاكتشاف»؟ سؤالك هذا أنا طرحته على نفسي وعلى القراء، خصوصاً أنه ليس لدي أية أوهام أو مزاعم عن أهمية ما أكتبه. وأسأل نفسي دائماً ما هو الجديد الذي يمكن أن أقدمه؟ وتكون الإجابة في أغلب الأحيان ليست في صالحي. أي شيء كتبته، عندما أعيد قراءته، أُدرك بأنه كان يمكن أن يُكتب بشكل أفضل من ذلك بكثير.
ولكن في هذا الكتاب أستطيع القول إنني قدّمت لأول مرة رواية فلسطينية-عربية، أو بشكل أكثر تحديداً رواية بقلم كاتب فلسطيني-عربي، ومن وجهة نظره لموضوع ما زال يشغل الباحثين في مختلف العالم، وبالطبع في الدولة العبرية، ويصدر عنه كتب بانتظام، رغم أن الموضوع يفترض أن يتعلق بنا وبتاريخنا وبإرثنا.
لقد قدّمت في هذا الكتاب رواية غير استشراقية وغير إسرائيلية، لقصة اكتشاف هذه المخطوطات، على لسان أحد أبطالها وهو محمد حمّاد. الذي ما زال صحفيون وباحثون وكتّاب من مختلف أنحاء العالم يقصدونه ليقدموا، بشكل دائم وممل، قصة استشراقية عن الولدين البدويين اللذين اكتشفا المخطوطات التي ظلت محفوظة في باطن صحراء البحر الميت، ألفي عام، صدفة.
أعلم أن بعض الكتاب العرب، كتبوا عن الموضوع، وقرأت عن فيلم تسجيلي أُنتج في سوريا عن الموضوع، ولكن غياب البحث الميداني، ومعرفة صحراء البحر الميت، التي لم يقدم الجغرافيون والإخباريون العرب والمسلمون، عنها وعن فلسطين إرثاً معرفياً مهماً، أو حتى غير مهم، لا شك سيضعف أي كتابة عن الموضوع. وبدلاً من ذلك تواروا خلف ما يعرف بأدب الفضائل.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق