أهلين

"من عرف الله سار، ومن سار طار، ومن طار حار". عجيل المقدسي.

الأربعاء، 21 نوفمبر 2007

فلسفة المؤقت في ضريح عرفات

في الذكرى الأولى لوفاة ياسر عرفات، وضع خلفه محمود عباس (أبو مازن) حجر الأساس لبناء ضريحه، على أن يتم الإنجاز في الذكرى الثانية لرحيل الزعيم الفلسطيني، وهو ما تابعته «الشرق الأوسط» في حينه. إلا أن الظروف السياسية التي مرت بها الأراضي الفلسطينية، والحصار الذي فرض على السلطة، لم تتح إنجاز الضريح، الذي صممه المعماري جعفر إبراهيم طوقان، الشاعر المعروف في الموعد المحدد، حتى افتتحه أبو مازن، أخيراً، في الذكرى الثالثة لوفاة عرفات. ليصبح احد الرموز المعمارية الحديثة الأكثر أناقة وجمالية في فلسطين اليوم.

الضريح وملحقاته، رغم بساطة تصميمه، المستوحاة مما يطلق عليه القائمون على المشروع «بساطة ياسر عرفات»، يعتبر تحفة فنية، في بلاد غابت عنها التصميمات المعمارية، خلال سنوات الاحتلال الطويلة، رغم أن تاريخها يزخر بالفنون الهندسية التي تعود لمختلف الحضارات، الشرقية كما الغربية. وبالإضافة إلى بساطة التصميم، فان الضريح، يتميز بشيء آخر، له علاقة أيضا بصاحبه، وهو ما اسماه الدكتور محمد شتية «فلسفة المؤقت». وشتية، يرأس المجلس الاقتصادي الفلسطيني للتنمية والاعمار (بكدار) الذي اشرف على تنفيذ المشروع منذ بدايته، والذي بلغت كلفته 1.750.327 دولاراً.

وقال شتيه عن مفهوم البساطة، خلال افتتاح الضريح «كان ياسر عرفات بسيطا في مأكله ومشربه وملبسه، ويبدي تواضعا استثنائيا، متقشفا وزاهدا في قضاياه الشخصية، ذاكرته حادة، ينادي على الأشخاص بأسمائهم الأولى». وحول معنى المؤقت قال: «عندما استشهد ياسر عرفات، هبطت المروحية التي أقلت جثمانه إلى الوطن، في بحر من البشر، داخل المقاطعة في رام الله. ولم يتم الدفن بسبب تزاحم الناس في المكان، وأجل إلى الرابعة صباحا في قبر اعد خصيصا بمواصفات توحي بالمؤقت». بني الضريح على مسطح مائي «لان الماء رمز المؤقت ولا شيء يستقر على سطح الماء. ونحن رمزنا للمؤقت بالماء على أمل أن ينقل الضريح إلى القدس بعد التحرير»، كما يقول شتية. ويضيف «جعلنا جدران الضريح من الزجاج المقوى رمزا للشفافية، والضريح كله في غاية البساطة والتواضع، انعكاسا لشخصية أبو عمار». وبالإضافة إلى صفتي البساطة والمؤقت، يلحظ الناظر أن الضريح مليء بالرموز. فهو عبارة عن مبنى مكعب طول كل واجهة من واجهاته 11م وعرضها 11م، في إشارة إلى تاريخ 11/11 وهو يوم وفاة عرفات. ولتحقيق المعاني التي أرادها القائمون على تشييد الضريح، تم اللجوء إلى أساليب منها البناء بأسلوب التثبيت الميكانيكي. حيث تم وضع الحجارة المشهورة المستخرجة من جبال القدس، على الضريح مثبتة بنحو 13 ألف برغي تتمتع بأجود المواصفات العالمية. وتعليق الحجارة بهذه التقنية التي تستخدم للمرة الأولى في فلسطين، يوحي بفلسفة المؤقت التي أقيم الضريح على أساسها.

يتكون المشروع من ثلاثة أبنية رئيسية، هي الضريح المقام على قبر عرفات، ومبنى المصلى، ومبنى المنارة، بالإضافة إلى البركة المحيطة بالضريح، والممرات، والساحات، والأدراج، والحدائق وغيرها. المبنى الرئيسي بالطبع هو الضريح، الذي وإن بدا عائماً على الماء، فهو مثبت من الداخل والخارج وفي الأرضيات وحتى على السطح. وتتضمن كل واجهة حجرية واجهة من الزجاج المقوى، مركبة وفق احدث الأنظمة. وأحيط موقع الجثمان، بحجر القدس المحلي. أما الشاهد فهو عبارة عن صخرة مكعبة الشكل، في ما تم تبليط البركة التي يسبح عليها الضريح بالسيراميك الأزرق، واستخدم لذلك 44276 بلاطة، ويتم تزويد البركة بالماء المخلوط ببلورات فسفورية لتلوين البركة بألوان الطيف نهاراً. ووضع حبل من الألياف الزجاجية لإعطاء ألوان الطيف للماء ليلاً.

ونقشت آيات قرآنية يدويا على 132 حجرا، أحاطت بالضريح، وعلى كل جهة نقرأ «من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا». أما مبنى المصلى فتبلغ مساحته 319م2، وارتفاعه 8 أمتار، وكالضريح، يتميز بتثبيت الحجارة القدسية على جدرانه الداخلية والخارجية، بطريقة التثبيت الميكانيكي الجاف، وهو منقسم إلى مصلى للرجال، وآخر للنساء في الجزء العلوي.

وتتميز واجهات المصلى، بالآيات القرآنية المنقوشة يدويا، حيث تم استخدام 138 حجرا لنقش هذا الذكر الحكيم «الله لا اله إلا هو الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم له ما في السماوات وما في الأرض من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء وسع كرسيه السماوات والأرض ولا يؤوده حفظهما وهو العلي العظيم». ويغطي السجاد الفاخر أرضية المصلى، الذي يحتوي على واجهات داخلية زجاجية، والدرابزين الداخلي، هو أيضا من الزجاج، ومن توابع المصلى، حمامات ومتوضأ، جميع جدرانها وأرضياتها من السيراميك، وحول المصلى مساحات خضراء تبلغ نحو ألف متر مربع.

من أهم المباني في مشروع الضريح، المنارة، التي تدل عليه من بعيد، بارتفاع 30م، وهي بذلك ترتفع 901م عن سطح البحر المتوسط، وتعلو المنارة إضاءة بالليزر تتجه نحو القدس. والمنارة مغلفة بالحجر القدسي المعتق بأسلوب التثبيت الميكانيكي، مثل المبنيين الآخرين. ويتم الصعود إليها بسلالم حديدية، وواجهاتها مزدانة بنقوش لآيات قرآنية كريمة، كان عرفات دائم الترديد لها، وهي «فاصبر صبرا جميلا»، و«انهم يرونه بعيدا ونراه قريبا»، وتم استخدام 36 حجرا، لحفر هذه النقوش. وترتبط المباني الثلاثة التي يتكون منها المشروع ببعضها بعضا، بفضل الساحات والممرات المبلطة بالحجر القدسي، وتبلغ مساحتها 1745م2. ونقشت في الساحة الجنوبية المؤدية للضريح، على الحجارة القدسية، عبارات للشاعر محمود درويش عن عرفات «كان ياسر عرفات الفصل الأطول في حياتنا، وكان اسمه، أحد أسماء فلسطين الجديدة، الناهضة من رماد النكبة إلى جمرة المقاومة، إلى فكرة الدولة. وفي كل واحد منا شيء منه». وتبرز في مشروع الضريح المساحات الخضراء، التي صممها المهندس هاني الحسن، وهو من اختار كل شجرة ونبتة. تضم هذه الحدائق أشجاراً، وشجيرات ومتسلقات. فمن الأشجار: حور إيطالي، وسرو، وتمر حنة هندي، وبلوط فلسطيني، وزيتون فلسطيني، وخروب، وارز اطلنطي، ونخيل مثمر، وارز ديودارا.

أما الشجيرات فمنها: شمشير، وشيح، وجونيير زاحف، وجولد كرست، ومكنسة، ومن المتسلقات: هيدرا، والساعة، وحوليات، واقتصرت التغطيات الأرضية على الحشيش، ودايكوندرا، بالإضافة إلى الصخور. بافتتاح الضريح من قبل محمود عباس، تكون المرحلة الأولى من المشروع، قد انتهت، ولكن بقيت مرحلة أخرى، وهي إقامة المتحف الذي سيؤرخ لياسر عرفات، عبر ما كتب وقيل عنه وعبر مقتنياته الشخصية.

* ضريح عرفات بالأرقام خلال الفترة التي أنجز فيها المشروع

* عمل فيه نحو 12840 شخصا بين مهندس، ومراقب، ورسام، ومساح، وحاسب كميات، بالإضافة إلى الحرفيين، والعمال المهرة. واستخدم 6245 متراً مكعباً من التربة المختارة للردم تعلوها التربة الزراعية الحمراء. وتم تنفيذ 2225 متراً مكعباً من الخرسانة المسلحة للمباني. واستعمل 5500 حجر لبلاط الأرضيات، و 2200 حجر للواجهات الداخلية للمباني، و3500 حجر للواجهات الخارجية للمباني والأسوار

وتم استخدام 306 أحجار لنقش الآيات القرآنية عليها يدويا. واحتاج المشروع 13 ألف برغي لتثبيت الأحجار، و13 ألف زاوية ستانلس ستيل لتعليق الحجر، وزرع أكثر من 25 صنفاً نباتياً، في الحدائق، مزودة بأحدث أنظمة الري والتسميد.

وبعد انتهاء هذه المرحلة من المشروع يتنفس محمد شتيه الصعداء، بعد التعثر الذي حصل في إنجازه وأخره لمدة عام كامل، ويقول «انني على ثقة بان ما قمنا به هو أمر يليق ببساطة وتواضع الرئيس الشهيد ياسر عرفات».

ويفخر شتية بان الإنجاز تم بعقول وأيدي، وأيضا أموال فلسطينية، حيث كانت السلطة رفضت عروضا مالية من الخارج للتكفل ببناء الضريح، وأصرت على أن يتم بناؤه من الصندوق الفلسطيني.

http://www.asharqalawsat.com/details.asp?section=19&issue=10585&article=446475

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق