أهلين

"من عرف الله سار، ومن سار طار، ومن طار حار". عجيل المقدسي.

الاثنين، 7 مايو 2018

خبأت الوطن في الكلمات..!









يمكن لعنوان الندوة (تهريب الوطن عبر الكلمات) أن يناسب أحلام فراشة حالمة مبشرة، أكثر من روائي أضله الوطن، وخبأ الوطن، فعلاً، لا مجازًا في الكلمات.
نَمَوّت في منزلٍ في مخيم الدهيشة، واسطة عقد المثلث المقدس: القدس، بيت لحم، الخليل، ووعيت على والدين أميين، أنهكهما طول اللجوء، رأيت فيه أخي الأكبر طالب المرحلة الثانوية، المناضل ضد الاحتلال منهمك دائمًا في إيجاد مخابيء للكلمات، وأكثر المخابيء فتنة، هي شقوق خزان الماء الإسمنتي الذي بناه الوالد في الباحة الصغيرة بين غرفتين، والتي كانت بمثابة فضاء متعدد الأغراض، كصالون مرتجل، ولجلسات السهر الطويلة في صيف المخيم، واللقاءات، والاجتماعات الحزبية.

لم تكن الكلمات التي يخبئها أخي، وأنا أراقبه، أو اكتشف ما يخبئه عني ليس فقط من منشورات حزبية، وطالبية ثورية، ولكن أيضا أدبية، وأكثرها خطورة للطفل الذي كنته الأوراق الصفراء المتهالكة التي تضم قصائد للشاعر عبد المعين الملوحي، في رثاء زوجته التي اختطفتها يد المنون مبكرًا، ثم اختطفت روح ابنته، وفي هذه القصائد جرأة في تحدٍ للسلطة الدينية، وما تزال ممنوعة من النشر حتى عصر القرية الواحدة الحالي، ويمكن أن تتوقعوا كيف ستكون ردة فعلي بعد سنوات، عندما اكتشف كتابته لقصيدة اعتذار عنها.
في تلك الشقوق الرطبة، التي لم يكن يصلها الماء بأعجوبة، خُبئت الكثير من الكلمات، جرائد سرية، ومنشورات، وقصائد لآخرين كناظم حكمت، بدا أن كل ما يخبيء في تلك الشقوق هو معادٍ للاحتلال، وستستقبل الشقوق لاحقا خواطرًا وأشعارا وزجليات ثورية خطها عقلي الصغير، اعتقدت بأنها ستزغلل عيون الاحتلال الذي كان دائم الدهم لمنزلنا، ولكن ضباط الشاباك المتلاحقين لم يتمكنوا من وضع أيديهم على ما تخبئه الشقوق. كان الكلمات بمثابة السحر والطلسم.
ستتحول كلمات الشقوق إلى انتماء والى وطن، وطن على مقاسي، حرُ وتقدمي وعادل.
سأكور الكلمات حجارة، وسأصبح واحدًا من جيل حمل الحجر بيد، والكتاب بالأخرى، وتبادل الكتب سرًا، وكأنها مناشير. قائمة الكتب الممنوعة في ظل الحكم العسكري الاحتلالي، لم تكن تناسب احتلالاً لطالما وصف نفسه بالاحتلال «الليبرالي»، وتشمل كل الكتب تقريبًا التي تصدر في الدول العربية. وسط الحصار الثقافي، عثرت على كنوز صغيرة مخبئة، ولكنها هامة في مكتبة مدرسة الدهيشة الإعدادية، منها مثلاً أرشيف لمجلة «الأفق الجديد» لصاحبها أمين شنار، التي صدرت في القدس قبل احتلال 1967م.
في أوائل ثمانينات القرن الماضي، ظهر شخص شديد العنف، يهودي من كردستان العراق، في منصب مستشار حاكم بيت لحم العسكري، جهم سمين وطويل يتدلى كرشه، يربي شاريًا كثيفًا مخيفًا، وأطلق على نفسه اسما زمجريًا (أبو الفهد)، على الأغلب رأى أنه يناسب الدور المكلف به. يجيد العربية، كواحدٍ من أبنائها، وكان يضطلع بدور قامع المظاهرات البشع. وضع أبو الفهد، لسبب ما، مطاردة الكتب في بيوتنا هدفا له، مما ضيق حلقة الحصار الثقافي علينا، وعلمنا أنه يتمتع بقراءة كتبنا.
في عام 1984 برطع أمام مخيمنا الحاخام ليفنغر، مطالبا سلطات الاحتلال باتخاذ إجراءات رادعة لمنع أولاد المخيم من رشق سيارات المستوطنين، وتم فرض حظر تجوال طويل على المخيم. وفي يومٍ، وأنا في غرفتي محبوسا مثل باقي أهالي المخيم، دخل الأديب الإسرائيلي سامي ميخائيل ومعه مصور، وقال لي بأنه جاء ليكتب عن معاناة السكان. وباغتني بسؤال: الكاتب تكون لديه على الأقل مكتبة، أين مكتبتك؟ أجبته، بأنني أخبئ كتبي تحت الأرض، لأن كل اقتحام من قبل الجيش يؤدي ليس فقط إلى مصادرتها، ولكن أيضا إلى ضرب، وأحيانا المحاكمة بتهمة حيازة مواد ممنوعة، ورويت له كيف داهم أبو الفهد، أخيرا المنزل، وصادر كتاب «عرس بغل» للطاهر وطار، واستدعاني للتحقيق، من دون أن يعلم أن أحداثها تدور في ماخور، وليس لها علاقة بشيء اسمه فلسطين، وبقيت مرميا من الصباح حتى المساء أمام مكتبه في مقر الحاكم العسكري الذي كون فيه مكتبة لا بأس بها من كتبنا المصادرة، وفي نهاية كل يوم يخرج أبو الفهد من دون كلمة ليسألني: الكتاب لك؟ فأقول له نعم، فيطلب مني أن أعود في الغد، وهكذا توالى اعتقالي النهاري. ضحك سامي ميخائيل وهو يبحلق في المكان الذي أخفيت فيه الكتب، وقال: أنتم تخبئون الكتب تحت الأرض، ونحن نخبئ الدولارات تحت الأرض، ترى لمن سيكون المستقبل؟ في تلك الفترة، شاع أن كثيرا من الإسرائيليين يخبئون الدولارات بعيًدا عن البنوك للتحايل على قوانين نظمت التعامل مع العملة الصعبة. أخر مرة شوهد فيها أبو الفهد، بعد تقاعده، وهو يبيع الخضار على بسطة في سوق محني يهودا الشعبي في القدس الجديدة، يمضي وقته في مجادلة العجائز اليهوديات. يبدو أن القراءة لم تفده، بعكسي، فهي أنقذتني من أن لا أكون أي شيء سوى نفسي، ونفسي فقط.
يقول مولانا فريد الدين العطّار: الروح خفية في الجسم، وأنت في الروح خفي، يا خفيا في خفي يا روح الروح.
وطني الذي أخفيته في كلماتي، ذرته الرياح، التي أتت من عاصمة بعيدة هي أوسلو، شهدت تذويت ذات وطن كلماتي، فعشت غريبًا، ولم أستعيده حتى الآن.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق