أهلين

"من عرف الله سار، ومن سار طار، ومن طار حار". عجيل المقدسي.

الأربعاء، 9 مايو 2018

أسامة العيسة راوي حكايات المكان بامتياز/يوسف شرقاوي



لا أبالغ إن قلت بأن الروائي الفلسطيني أسامة العيسة هو راوي حكايات المكان بامتياز، وهذا يظهر ليس في روايته الأخيرة (جسر على نهر الأردن: تباريح جندي لم يحارب) فحسب، بل من عدة روايات سبقت ذلك مثل: مجانين بيت لحم وقط بئر السبع، وقبلة بيت لحم الأخيرة، والمسكوبية.
العيسة يجمع في نصوصه الأدبية المميزة جميع أركان الرواية بنص أدبي مشوق، غرف من المكان ويستند إلى الزمان بواقعية أنيقة، بعيدا عن الرغبوية الممجوجة، يسبر غور المكان، بحيادية مفرطة، وبموضوعية صادقة، وبمهنية كفؤة، كيف لا وهو المدرك، بأن صناعة الأدب ليست بالعمل السهل، بل هي اقرب إلى "الصناعات الثقيلة" فجودة الكتابة ليست بالرغبات، بل بالحقائق.
يجمع العيسة ما بين عبقرية المكان والزمان والإنسان، ويحدد اتجاهه الروائي إلى هدفه ببوصلة أدبية أقرب إلى الأدب الجيد المشوق، لأنه يحترم وعي القراء، من خلال انحيازه لمن لا صوت ولا حظ، ولا معين لهم، عله وعلهم بالثقافة وحدها يردون على نخب خائنة امتهنت الأدب بنصف ثقافة،كي تبرر الخيانة.
في روايته الأخيرة جسر على نهر الأردن، يوظف المكان والزمان والإنسان، بخط سردي مشوق ومتين، ولافت إلى حداثة واجتهاد لغوي راق، في مساره السردي.
العيسة تواطأ مع التاريخ بحنكة ليأخذنا إلى الجغرافيا من خلال بطله الرئيس في الرواية يوسف الرطاسي ليرد ضمتا بحرفية عالية على من يريد أن يزوّر التاريخ، ليستولي على الجغرافيا، وكأنه هذا "الزكراوي الشقي" حارسا للوعي الفردي والجمعي.
يأخذنا  مع يوسف الرطاسي هذا الفلسطيني الصادق، ذو الحظ العاثر، شأنه  كشأن معظم أبناء جيله، يطمح بحياة عادية ومستقرة، في مجتمع يكون فيه الإنسان سيد نفسه، حيث أن هذا الجيل وبفعل نكبة 1948م، أصبح يعاني معاناة مركبة، شظف العيش، والقهر السياسي، وسحق الشخصية الفردية والجمعية.
الرطاسي الموظف البسيط، قبل سوقه إلى ما يسمى التجنيد الإجباري كجندي "مكلف" يتم تدريبه على المراسم على حساب المهارة الميدانية، وضرب النار، والقتال وجها لوجه مع العدو، حيث الصدام المتوقع معه بعد مذابح نحالين والسموع.
الرطاسي يدرك أن "تكليفه" هو من أجل تفريغ الساحة من أمثاله وأمثال ربحي، ويوسف السرياني، ومعظم أبناء جيله، ومن أجل تبرير الهزيمة القادمة التي وقعت فعلاً، هزيمة "حزيران 1967"
الرطاسي، المكلف المتحمس لقتال العدو، المتشوق لنزاله لم ير عدوًا، بل رأى مكلفين مثله، تدربوا وانتظروا ثم صدرت لهم أوامر الانسحاب، لتكون الضفة لقمة سائغة  للعدو.
الرطاسي ورفاقه المكلفون،كانوا يمنون النفس بأن يدحروا العدو ويلاحقونه حتى يافا، فإذا بهم شرق النهر.
لكن الرطاسي لم يرضَ بالأمر الواقع، بل عرف كي يرد، وهذا ما استنتجه العيسة من "الفأر  الشوكي" بان الرطاسي  عاد فدائي  متسللاً، لينفذ عملية نوعية ويعتقل لمدة 15 عامًا.
في "تباربح جندي لم يحارب" يبدع العيسة في تقديم حكاية مؤثرة كأنه يقول لمن يقدم أدبًا رديئا  كيف تروى الرواية، بكتابة مشتهاة، وخدش قداسة أشباه المثقفين، بل وأراد أن يحوّل السرد إلى مرافعة للدفاع عن يوسف الذي هُزم بفعل تواطؤ  أنظمة قدمت الوطن لقمة سائغة للعدو.
يقدم العيسة، كتابة راقية وأنيقة ومشوقة، إيمانا منه بأنه لا يرى ذاته إلا في مرآة من لم يحالفهم الحظ.
فمن هنا لن أبالغ إن  وصفت الروائي العيسة، بكاتب المكان بامتياز، بل وراوي حكايات المكان.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق