في تسعينات
القرن الماضي، كتبت قصة عن تيس يدر حليبا، يكتشف الناس قدرته على علاج جميع
مشاكلهم المادية والمعنوية والاجتماعية والمرضية. لم تحتاج القصة إلى ذكاء أو خيال
أو تمكن أو واقعية سحرية، ولكنها كانت تقريبا طبق الأصل عن واقعة حقيقية اهتمت بها،
آنذاك، صحيفة كل العرب برئاسة الشاعر سميح القاسم، التي كنت اعمل بها.
انتشر في ذلك
الوقت خبر تيس يدر حليبا في احدى قرى شمال الضفة الغربية، وبدأ الناس يقصدون
القرية لشراء الحليب الشافي.
لم تهتم
الصحيفة، على ما أذكر، باستمزاج رأي طبيب، لربما اقترح ان الامر ناتج عن خلل جيني،
ولم تخسر القليل من المال، لتحليل الحليب في مختبر مختص لنعرف مكونات حليب التيس
الاسطوري الذي خلب العقول.
خلال تنظيف
ارشيفي القديم، وقعت القصة التي لم تنشر، بين يدي، في الاجواء الرمادية بعد محرقة
غزة. توقعت من شعبنا، حتى يكون ما حدث في غزة شيئا يشبه الانتصار، على الاقل، ان
يلفظ هذا الشعب -المضحي، الذي يستعد لتقديم عشرات الشهداء في مواجهة الاحتلال،
ويعجز عن محاربة فاسد واحد- تيوس السياسة، والثقافة، والاعلام والجامعات في
بلادنا. ولكن ما حدث العكس، رحبت الفضائيات بسرعة بجولات الردح، وارتفعت الاعلام
الفصائلية بشكل غير مسبوق، ووزعت الحلوى على انقاض المنازل المدمرة، وأضاف
السياسيون مصطلحات جديدة إلى قاموسهم السياسي المبهر، وكُتبت الاشعار، والقصص
القصيرة جدا. واحتفت المواقع الالكترونية بصور الاطفال الذين يرتدون الاوشحة الفصائلية
ويحملون السلاح، ولم تهتم بمصيرهم ومدارسهم.
النصر لكي
يكون نصرا، يعني ان يُحدث فرقا، والمقاومة، تكون مقاومة، بمقدار قدرتها على
التغيير، وليس ترك القِدم على قِدمه، أو الاسوأ اعادة انتاجه.
صاحب التيس في
القصة الحقيقية، تخلص من تيسه، بالذبح، بعد ان زهق من هوس الناس وهبلهم، واكتفى
بما سلبه من أموالهم. وأنا، ومن باب أضعف الايمان، قررت التخلص من قصتي، كما فعلت
وافعل مع الكثير من الهذر الذي اكتبه، والذي اتبين لاحقا بانه لا يصلح للنشر.
حكمة الجدات
تكفي: "بنقول تيس، بقول احلبوه..!"
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق