أهلين

"من عرف الله سار، ومن سار طار، ومن طار حار". عجيل المقدسي.

الأربعاء، 6 فبراير 2008

القدس بعيون فرنسية

تعمل في مدينة القدس العديد من المؤسسات العلمية والبحثية والأثرية الأجنبية، التي تأسس معظمها في القرن التاسع عشر، ومن بينها «المعهد الإنجيلي الأثري الفرنسي» الذي أنشئ عام 1890، ومعه تأسست مكتبة المعهد التي تضم الآن آلاف الكتب والمراجع عن القدس باللغات الفرنسية والإنجليزية والإيطالية وغيرها.

ويعود الفضل في تأسيس المعهد إلى مجموعة من الرهبان الدومينيكان، بهدف إجراء أبحاث أثرية في الأرض المقدسة، ودراسة النصوص وفقا لمنهجية تاريخية معينة. في البداية، اشتهرت من المعهد مكتبته، التي استقطبت الباحثين الشباب من رجال الدين الذين استهوتهم الأراضي المقدسة، ثم توسع الاهتمام ليشمل أيضا العلمانيين.

وشكل م. ح. لاغرانغ، مؤسس المعهد، فريقا من الباحثين الشباب المتحمسين، لدراسة الكتاب المقدس وربط أحداثه بمحيطه الطبيعي والتاريخي، ويعبر ذلك عن مدرسة كانت وما زالت شائعة في النظر لأحداث الكتاب المقدس.

ورغم المآخذ الكثيرة على وجهة النظر هذه، إلا أنها بقيت سائدة، ولعب متبنوها دوراً مهماً من خلال الحفريات الأثرية والكشوفات. وبالنسبة للمعهد الإنجيلي الأثرى الفرنسي، فإن باحثيه عملوا على نشر نتائج حفرياتهم أولاً بأول. ولهذه الغاية أسسوا في عام 1892، دورية لنشر نتائج الحفريات والمكتشفات، مرفقة بالصور.

ثروة المعهد، اليوم، من الصور الخاصة بالقدس وفلسطين، لا تقدر بأي ثمن، ولا يمكن إحصاؤها، ويزيد عددها على العشرين ألف صورة.

وتعود أولى الصور إلى عام 1890، عندما عمل مؤسس المعهد لاغرانغ، ومساعده بول سيجورني، على التقاط الصور للقدس وأماكن أخرى في فلسطين، في بداية قد لا تكون احترافية، لكنها نضجت بوصول كل من: انتونان جوسين (1871 ـ 1962)، ورافائيل سافينياك (1874 ـ 1951) إلى القدس. كان عمر الأول 19 عاما، والثاني 18 عاما، وقدر للاثنين أن يفنيا حياتيهما في التصوير الفوتوغرافي.

ومن خلال ما تركاه من ثروة بصرية غير مستغلة، ومجهولة، للباحثين الفلسطينيين والعرب، يمكن تحسس حرفية عملهما، ومعرفتهما بفلسطين وعادات سكانها وتقاليدهم.

وحسب الخبراء في المعهد الإنجيلي الأثرى الفرنسي، فإن 80% من ثروة المعهد من الصور تعود لكل من جوسين، وسافينياك، والباقي يعود لآخرين من الرواد.

هذه المجموعة من الصور، التي يحويها أرشيف المعهد، ما زالت تثير الدهشة، وخلال السنوات الثلاثين الماضية، حظيت باهتمام استثنائي، عندما وصل إلى المعهد العالمان: جان ميشيل تارغوان، وجان باتست اومبر.

وروى تارغوان، ما رآه وزميله اومبر: «منذ ثلاثين عاما حين وصلنا إلى القدس، فوجئنا بعظمة مجموعات الصور والألواح التي عثرنا عليها في الأرشيف، خصوصا أن اللوحات الزجاجية (ديابوزيتيف) لم تكن قد استثمرت بعد. ومن أجل الاستجابة لمقتضيات التصوير الأثرى لحفرياتنا، أنشأنا مختبرا صغيرا للصور بالأبيض والأسود».

والمختبر الذي أنشأه تارغوان، وامبر كان في الواقع تطويرا للمختبر الذي كان يستخدمه سافينياك وزميله جوسين، قبل أن يهجر لاحقا.

عمل تارغوان وامبر من اجل إخراج الثروة التي عثرا عليها من الصور، لتكون في أيدي الجمهور والباحثين، واستعملا أنواعاً مختلفة من آلات التصوير القديمة، وسحبا كليشيهات فوتوغرافية من مجموعات وضعت في الأرشيف، ولم يكن الأمر سهلا أبداً، لأنه يجري مع مجموعة هائلة تضمها مكتبة الصور التابعة للمعهد، ومن بينها 15 ألف نسخة سلبية، و5 آلاف عدسة زجاجية موجبة كانت تستخدم سابقا قبل شيوع تقنيات احدث في التصوير. وهذه العدسات التي يطلق عليها «ديابوزيتيف» استخدمت في حينه، على الأغلب، للعروض التربوية والترفيهية.

هذه الصور التقطت بآلات تصوير ما زالت موجودة بلوازمها في المعهد مثل: البصريات، المناصب الخشبية، الحقائب، إطارات اللوحات الزجاجية، بالإضافة إلى الآلات الخاصة بالتصوير ذي الأبعاد الثلاثة، وآلات لتسليط الصور على الزجاج. وجزء من ثروة المعهد من الصور الزجاجية اشتريت من السوق المحلي، وأصبحت بعد ذلك بقرن، كما يرى تارغوان «شاهدا على الإنتاج الفوتوغرافي التجاري الرفيع الجودة في الأرض المقدسة»، والجزء الآخر يعود لرهبان دير نوتردام في القدس، ووصلت العدسات الزجاجية التابعة إلى المعهد عام 1995، بعد العثور عليها في مستودع للسيارات منذ ان تركت فيه خلال حربي 1948 و1967.

ورغم الشغف الذي يبديه تارغوان تجاه ثروة المعهد من الصور، إلا انه يضعها ضمن سياقاتها التاريخية والمعرفية، ويرى بأن «من خصائص هذه المجموعة، أنها لا تعكس مدرسة جمالية معينة أو مشروعا استعماريا ضمنيا ـ كما كان الحال في غالب الأحيان في عام 1890 ـ إنما هي تعتنق الأبحاث التأويلية والأثرية لأساتذة المعهد». وهو بذلك يضرب تحت الحزام، الجهود التي بذلها الأميركيون والبريطانيون التي لم تخلو من أغراض غير بحثية.

ويشير تارغوان إلى ما فعله أساتذة المعهد مثلا، وجميعهم من الرهبان، من تسيير بعثة بحثية للحجاز، ويتابع ما قاله «من هنا يمكن تفسير الانفتاح المفاجئ أحيانا (بعثة الحجاز) والثغرات التي يؤسف لها اليوم رغم مرور قرن عليها، والمتعلقة بمواضيع دراسات لم يولها المعهد أية أهمية».

أما مجموعة المعهد من الصور فيشير تارغوان إلى انه «لا يمكن القول إنها تركز على المشاهد الطبيعية أو تتميز بطابع سياسي أو ديني، أو ترفيهي، بل على العكس، فهي تنطلق من علم الآثار والهندسة وعلم النقوش كما اهتمت بعلم خصائص الشعوب».

وبدأ تعرف الجمهور الواسع على هذه المجموعة من الصور عام 1995، عندما نظم معرض في القدس بعنوان «مسارات إنجيلية» استناداً إلى صور المجموعة. ونظم المعرض بالتعاون بين «المعهد الإنجيلي»، والقنصلية الفرنسية بالقدس، و«معهد العالم العربي» في باريس، ولحقه عدة معارض عن البحر الميت، والحجاز. لكن أكثرها إثارة كان المعرض الذي نظم عام 2002 بعنوان «القدس الشريف: وثائق فوتوغرافية»، وضم صورا لمنطقة الحرم القدسي الشريف التقطت ما بين عامي 1890 ـ 1925، وأراد له منظموه أن يشكل حدثاً مهماً، وافتتحه في القدس وزير الخارجية الفرنسي آنذاك دومينيك دو فيلبان.

وتزامن المعرض مع ظروف قاسية جداً، عاشتها الأراضي الفلسطينية والقدس تحديداً، خلال انتفاضة الأقصى وعبر عنها في تقديمه لكتالوج المعرض مستشار التعاون والنشاط الثقافي في القنصلية الفرنسية بالقدس الذي ربط بين زمن إقامة المعرض و«انتفاضة الأقصى التي اندلعت في أسوار الحرم، في الوقت الذي كانت فيه الشرطة والجيش الإسرائيليان يقرران بصورة عشوائية، مثلما ما زالا يفعلان، حول من يمكنه الدخول ومن لا يمكنه الدخول إلى باحة المسجدين للصلاة والتجمع». وأضاف بأن الهدف من المعرض هو «بكل بساطة أن نمكن أولئك الممنوعين من الوصول إلى قبة الصخرة من التمتع بمشهد هذا المكان الساحر والمقدس على صورته التي كان عليها، قبل قيام قوى الحلفاء تحت إمرة الجنرال اللنبي البريطاني، بالدخول إلى القدس في 8 ديسمبر (كانون أول) 1917، مع التبعات التي نعرفها والتي ما زلنا نشهد آثارها المدمرة».

وتوجه المعرض للجمهور الفلسطيني والمسلم والغربي في الأرض المقدسة، لتعريفهم باللوحات الزجاجية للقدس الشريف التي تم تحميضها وعرضها، للمرة الأولى، بعد نحو قرن من التقاط بعضها، لتمكين الجمهور من اكتشاف مدينة السلام والحرب والديانات، خصوصا المكان الفريد المعروف بالحرم القدسي الشريف، ولخلق الحلقة المفقودة بين الماضي والحاضر والمستقبل، لكل من حلم بالقدس من حجاج وباحثين وصحافيين ومسافرين وعابرين ومتيمين. كل ذلك من خلال الصور التي التقطها رهبان «معهد الآثار الإنجيلي الفرنسي» الممزوجة بخلفيات أثرية وشاعرية وإثنوغرافية.

واستخرج صور المعرض من مجموعة المعهد الكبيرة، كل من الأب تارغوان، والأب اومبر، وعنها يقول تارغوان «تم تصوير القدس القديمة على يد سافينياك على الخصوص، بينما صور جوسين بعض الكليشيهات فقط، لم يصور الرجلان القدس على نحو شامل، غير أنهما عالجا موضوعين رئيسين: تناول أولهما الأسوار تناولاً دقيقاً وشاملاً، وتضمن الثاني الحرم الشريف».

ونهل معرض القدس الشريف من المشروعين، ويعزى تصوير الأسوار للراهب سافينياك عامي 1904 و1905، ويرجح تارغوان أن ذلك تم بهدف تربوي خاص بسور القدس «إذ تبين مجموعة صور الألواح المقاطع المتتالية والمتصلة للسور، دونت عليها بالحبر الأسود أرقام الأبراج ومماشي الجدران العالية ومواقع التميز المعماري، والقوالب البارزة، وتم ذلك كما لو أريد تصوير دراسة، لم تبصر النور حول الأبراج والمماشي المرتفعة الجدران».

أما صور الحرم فرأى تارغوان أنها «اقل دقة ومع ذلك نلاحظ حملتي تصوير على الأقل: سلسلة متجانسة من الصور الخارجية للمعالم من زوايا متكاملة، وبالآلات نفسها مع سحبها كالعادة في مقاييس عديدة من الاحتياط وهي طريقة معروفة لدى سافينياك وجوسين. أما السلسة الثانية فهي لجوسين وحده وهي عبارة عن صور داخلية لقبة الصخرة تم التقاطها من أعلى اسطوانة القبة، ودفعت شهرة مسجد الحرم وروعته الجمالية المصورين إلى العودة إلى عين المكان مرات عديدة».

ولا يعرف إلى أي مدى كان الراهبان سافينياك وجوسين، يعلمان أهمية ما يفعلانه بخصوص مكان يتعرض للتغيير والتهويد، بسرعة لا يمكن تصورها. وهذا أحد الأسباب التي تجعل مجموعة المعهد من الصور ثروة لا تقدر بثمن، عن زهرة المدائن التي تذوي وحيدة، ويرفض العالم سماع أنّات آلامها المدمية.

http://www.asharqalawsat.com/details.asp?section=19&issue=10662&article=457328

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق