أهلين

"من عرف الله سار، ومن سار طار، ومن طار حار". عجيل المقدسي.

الخميس، 10 يناير 2008

أسرار الـ«ستاتكو» الذي تسبب بحرب عالمية

لم يكد الفلسطينيون، ومعهم آخرون كثر من مختلف أنحاء العالم، يفرغون فرحين، من إحياء احتفالات أعياد الميلاد، التي شهدتها مدينة بيت لحم، ووصفت بأنها الأفضل والأكثر انفراجا وفرحا منذ سبع سنوات على الأقل، حتى حدث ما غير الأمر بشكل دراماتيكي. فقد وقعت مشاجرة بين الرهبان الأرمن واليونان الأرثوذكس في كنيسة المهد، والسبب هو خلاف على تنظيف أروقتها، بعد الاحتفالات التي اضطلع اللاتين بتنظيمها. والمشاجرة بالمكانس التي أوقعت عدداً من الجرحى، وسالت فيها الدماء، هي الرأس الظاهر، من جبل الجليد، لمشكلة الـ «ستاتكو»، التي تسببت في الماضي، بحرب شرسة بين روسيا والإمبراطورية العثمانية دامت ثلاث سنوات. الـ «ستاتكو» قضية مستعصية، عمرها أكثر من 200 سنة، وبدء العام الجديد، بنبشها أمر يستدعي القلق...

لم يكد ينفضّ الجمع ليلة عيد الميلاد، في كنيسة المهد حتى ظهر الرهبان، بغير الصورة التي يبدون عليها من الورع، فقد حملوا المكانس، ليخوضوا فيما بينهم مشاجرة حامية، أسفرت عن إصابة سبعة منهم، نقلوا إلى المشافي. والسبب المعلن لكل طرف، اتهامه للطرف الآخر بأنه تجاوز الـ(ستاتكو) الذي ينظم حقوق وواجبات الطوائف الثلاث المسيطرة على كنيسة المهد وهي: الأرثوذكس، والأرمن، واللاتين.

وأثارت المشاجرة اهتماما إعلاميا واسعا، خصوصا في وسائل الاعلام الغربية، رغم انها ليست الأولى، وليست الأفظع، ويقع مثلها كثير في الأماكن المسيحية المشمولة بالـ(ستاتكو).

وتجاهلت وسائل الإعلام الفلسطينية الأمر كليا، بينما تعاملت معه بعض وسائل الإعلام العربية على استحياء، وبشكل مقتضب.

فما هو هذا الـ(ستاتكو)، الذي تحول إلى ثقافة داخل المجتمع الفلسطيني، وينظر إليه كشيء محرم، لا يتوجب خرقه بأي ثمن، ويقف عائقا أمام الكثير من الاقتراحات الإصلاحية التي تقدم بين الحين والآخر مثل توحيد الأعياد والمناسبات الدينية المسيحية.

بسبب الـ(ستاتكو)، فإن عمليات ترميم واجبة وضرورية وملحة في أماكن أثرية ومقدسة مهمة، مثل كنيستي المهد والقيامة، تحتاج لمعجزة حتى تتم، رغم توفر الجهات الداعمة بسخاء لتنفيذ خطط لإنقاذ مثل هذه الأماكن التي تشكل إرثا ثقافيا عالميا.

ولفهم الأمور بشكل أوضح، لا بد من التذكير بمكانة الأرض المقدسة، التي كانت مقصدا لبعثات تبشيرية كثيرة. وفي فلسطين كثير من الطوائف المسيحية المختلفة التي تكونت على مدى التاريخ، بسبب التداخلات الثقافية، التي تم بعضها بشكل عنيف ودموي، وصدامات بين الشرق والغرب، قد يكون عالقا منها في الوجدان العربي والإسلامي ملحمة الحروب الصليبية التي استمرت مائتي عام، واستمرت لاحقا على شكل «حروب صليبية سلمية». هذا التعبير هو لمن قادوا هذه المرحلة، وبقي عالقاً في وجدان الآخر الغربي حتى أن الجنرال البريطاني ادموند اللنبي، عندما احتل فلسطين بتاريخ 9 ديسمبر 1917، اختار أن يعلن بدء الانتداب البريطاني على فلسطين، بعد ثلاثة أيام، من أمام قلعة القدس التاريخية، معلنا الأحكام العرفية، مطلقاً عبارته المفاجئة «الآن انتهت الحروب الصليبية». فأثارت مقولته هذه الانزعاج لدى مستقبليه الفلسطينيين، من مسلمين ومسيحيين، كانوا يعولون كثيرا على العهد البريطاني الجديد بعد سنوات الإمبراطورية العثمانية الأخيرة العجاف. وساد اكثر من الانزعاج في أنحاء مختلفة من العالم العربي، ويمكن الاستدلال على ذلك من قصيدة كتبها احمد شوقي ردا على اللنبي قال فيها:

يا فاتح القدس خل السيف ناحية

ليس الصليب حديدا كان بل خشبا

ولأسباب لا يمكن أن تخلو من السياسة كانت الدول الكبرى الغربية تجعل من نفسها حامية لما تعتبره حقوقا لهذه الطائفة أو تلك. وكانت التدخلات الغربية تكبر أو تصغر تبعا للمتغيرات السياسية، وهو أمر لا مجال للحديث عنه الآن. ولكن يمكن أن نذكر بأن مسيحيي فلسطين يتحدرون أساساً من اصل أرثوذكسي، وهم الآن طوائف متعددة بسبب ما شهدته هذه البلاد على مدار ألفي عام، وكان فيها الدين سلاحا لصراعات عنيفة.

ومن الطوائف الكثيرة المعترف بها: الروم الأرثوذكس، اللاتين، الأرمن، الروم الكاثوليك، السريان الأرثوذكس، السريان الكاثوليك، الأقباط، الأحباش، والبروتستانت بتقسيماتهم المختلفة. وكانت كنيسة المهد التي وقعت فيها المشاجرة الدامية الأخيرة، مسرحا لخلافات عديدة بين الطوائف واشتدت الخلافات سنة 1757م، عندما استولى اليونان على معظم الكنيسة بعد أن كانت بيد اللاتين، وذلك بموافقة السلطان التركي. وسنة 1810 استولى الأرمن على الحنية الشمالية من الكنيسة، وهكذا صارت هذه الكنيسة تملكها ثلاث طوائف.

ويقول الباحث جريس العلي «نتيجة للمنازعات حول حقوق الطوائف تدخلت الحكومة التركية وسنت قانونا بالاتفاق مع الطوائف المعنية يوضح ملكية كل طائفة وحقوقها وأوقات إقامة المراسم الدينية، وكيفية صيانة الكنيسة وتنظيفها. وتم الاتفاق أن يكون الباب الخارجي بيد حارس مسلم يتولى المحافظة على النظام والحراسة، ويدعى هذا الاتفاق (ستاتوس كوو) وحدث نفس الشيء في كنيسة القيامة في القدس».

ويعرف هذا النظام على نطاق واسع باسم (ستاتكو)، ويعني المحافظة على الوضع القائم، ويعتبر الأساس الذي تقوم عليه الحياة الدينية في الكنائس الرئيسية في فلسطين، وتدافع الطوائف المختلفة عن حقوقها عبر هذا القانون ولا تقبل المساس به.

والى الآن فإن الجزء الخاص من كنيسة المهد الذي بيد الروم الأرثوذكس كما يفصل العلي «يشرف عليه ويدافع عنه مطران أو ارشمندريت ومساعدون من شمامسة ورهبان وجميعهم يونان ويشتركون في المناسبات والمراسم والطقوس الدينية مع الكهنة العرب الأرثوذكس. وهم يسكنون في دير الروم الأرثوذكس الملاصق للكنيسة من الناحية الجنوبية الشرقية».

ومن المتعارف عليه أن يكون البطاركة والمطارنة والرهبان والشمامسة اليونان عزابا، أما الكهنة العرب الأرثوذكس فيجب أن يكونوا متزوجين، ولا يحق لهم أن يتدرجوا إلى مراتب كهنوتية عليا. ولدى اللاتين فكل الكهنة، بمن فيهم العرب، يجب أن يكونوا عزابا. ويمكن للكهنة العرب أن يتدرجوا في المراتب مثل الأب ميشيل صباح الذي اصبح بطريركا. وبالنسبة للأرمن والسريان والأحباش والأقباط فإن كهنتهم لا يتزوجون.

وفي كنيسة المهد توجد المغارة، التي يعتقد بأن السيد المسيح ولد فيها، وعلى الأغلب، فان الذين يصطفون لمشاهدة النجمة الفضية داخلها، لا يخطر ببالهم أن هذه النجمة الموضوعة في المكان الذي يعتقد بأنه شهد ولادة المسيح، عليه السلام، تسببت بأكبر نزاع نتيجة الاستاتكو. وقد يبدو نوعا من الفانتازيا القول بأنها كانت سببا في اندلاع حرب عالمية بين روسيا والإمبراطورية العثمانية، وهي تلك الحرب التي عرفت باسم (حرب القرم).

يدخل الناس إلى مغارة المهد (مساحتها 12 مترا طولا، وثلاثة أمتار عرضا) من بابين: شمالي وجنوبي، في صدرها ما يسمونه حنية صغيرة، فيها النجمة الفضية، وقريبا من الباب الجنوبي، توجد حنية أخرى اكبر من الأولى ينزل إليها بثلاث درجات وفيها مذود يحتوي على مجسم صغير للسيد المسيح. ويعتقد انه في هذا المكان وضعت مريم العذراء طفلها فيه بعد ولادته، والذي اصبح يعرف بألقاب كثيرة منه ما استمد من هذا المكان: طفل المغارة.

وبالنسبة للاستاتكو في مغارة المهد، فالأرثوذكس يقيمون صلوات في أوقات معينة داخل المغارة يوميا، ويحق للاتين والأرمن إقامة صلوات في أوقات معينة داخلها، ولكن للأرثوذكس فقط حق إقامة صلوات على ظهر مغارة المهد أو في قاعة ما بين العمدان، التي شهدت المشاجرة الأخيرة. ولكن هذه الحقوق لم يكن اكتسابها بالأمر الهين لذا اتخذت صفة القدسية.

لذلك كان أمرا استثنائيا، بشكل لم يتوقعه أحد، عندما استيقظ الناس في بيت لحم ذات يوم من عام 1852، ووجدوا أن النجمة الفضية المثبتة في مغارة المهد قد اختفت. اتهم اللاتين، الروم بسرقتها ووضع اللاتين نجمة مكانها، الأمر الذي اعتبرته روسيا حامية الأرثوذكس انتقاصا من حقوق الأرثوذكس. وبعض المؤرخين يذكرون أن السلطات العثمانية هي التي سمحت للاتين بوضع نجمة بدلا من المسروقة أو المختفية، نكاية بالإمبراطورية البيضاء.

ولم يرض ذلك بالطبع روسيا، التي طلبت من الحكومة العثمانية، أن تكون للأرثوذكس حرية التصرف بمفتاح كنيسة المهد وبالنجمة في مغارتها، ومطالب أخرى تمكن الأرثوذكس من صلاحيات في كنيسة القيامة. ورغم أن روسيا كانت تعتبر الإمبراطورية العثمانية (الرجل المريض) الذي سيستجيب لطلبها، إلا أن العثمانيين لم يردوا بالإيجاب، وكان ما كان.

لا أحد يعرف إلى اليوم من الذي سرق نجمة المهد، التي أدت بعد جواب الباب العالي برفض المطالب الروسية، إلى اندلاع حرب القرم في 9 مايو (أيار) من عام 1853 واستمرارها حتى عام 1856، ويا لها من حرب!

ويذكر المؤرخ الانجليزي، هربرت فيشر في كتابه المرجع «تاريخ أوروبا في العصر الحديث» أن حرب القرم اندلعت نتيجة نزاع بين رهبان الكنيستين الأرثوذكسية والكاثوليكية حول «أيهم أحق بحراسة بعض الأماكن المقدسة المسيحية ببيت المقدس».

ويقول بأن النزاع كان في حد ذاته تافها، ولكنه استمد أهميته من الحقيقة بأن قيصر روسيا كان يعاضد بقوة المطالب الأرثوذكسية، في حين أن نابليون الثالث، إمبراطور فرنسا كان يؤيد ادعاءات الكنيسة الكاثوليكية. وانتهى هذا النزاع المثير للخواطر، بوضع الحكومة التركية سنة 1852 تسوية له أثارت حنقاً شديداً لدى القيصر. فأمر بتعبئة جيش روسي وإنفاذه على نهر بروث وأوفد بعثة متغطرسة إلى الأستانة برئاسة الأمير متتشيكوف، لا لتطلب تقديم ترضية عاجلة فيما يتعلق ببيت المقدس فحسب، بل أيضا لإبرام معاهدة بين الدولتين تفوق شروطها جميع المطالب الروسية السابقة، بحيث تضمن للقيصر حق حماية جميع الرعايا الأرثوذكس. غير أن السلطان رفض هذه المطالب، واندلعت الحرب بين الطرفين، ودخلت فيها فيما بعد إلى جانب العثمانيين فرنسا بقيادة نابليون الثالث وبريطانيا، ولكل أهدافه التي بررتها تلك النجمة المسروقة في بيت لحم على بعد بحار وجبال وسهول.

وانتهت الحرب بعد ثلاث سنوات بانتصار الروس وكان من نتائجها، كما يقول فيشر، أنها خلقت الظروف الملائمة لما اسماه تحرير الأمتين الألمانية والإيطالية، وحررت، أيضا، مقاطعتين للنمسا بالإضافة لنهر الدانوب.

ويعلق فيشر على ذلك بقوله «هذه أهم النتائج السياسية لعراك نشب من دون أن تكون له ضرورة، ووجه من غير تبصر أو نظر».

وكل هذا بسبب ذلك الفلسطيني الغامض الذي سرق النجمة وما زال مجهولا حتى اليوم، ومواطنوه يدفعون ثمن صراع الدول الكبرى على بلادهم. وقد شكلت مشاجرة الأرمن واليونان، الأخيرة في كنيسة المهد تجليا صغيرا لهذا الصراع الذي يبدو مع بداية عام 2008 انه لا بصيص أمل في آخر النفق بشأنه.

http://www.asharqalawsat.com/details.asp?section=19&issue=10634&article=453203

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق