أهلين

"من عرف الله سار، ومن سار طار، ومن طار حار". عجيل المقدسي.

الأربعاء، 16 يناير 2008

«أدب المقاومة» الفلسطيني الجديد يكتبه هواة

منذ مدة ليست بالقصيرة، تحول مصطلح «أدب المقاومة» إلى شيء كريه يتوجب تجنبه بالنسبة لأجيال أدبية فلسطينية مختلفة، حتى أن من أطلق عليهم في الستينات «شعراء المقاومة»، وبنوا شهرتهم على ذلك باتوا يتهربون من التصاق هذا الشعر بهم، مثل محمود درويش، الذي يواصل تألقه الشعري بعيدا عن أية قوالب، ومثل سالم جبران، الذي توقف عن قرض الشعر. هذا عدا ان بعض من أطلق عليهم «شعراء المقاومة» لهم خياراتهم السياسية، التي قد تكون بعيدة كثيرا عن المفهوم التقليدي والشائع عربيا لما يسمى «أدب المقاومة».

فالشاعر سميح القاسم مثلاً، اسبغ على نفسه صفات جديدة مثل «الشاعر العروبي»، أو «شاعر القومية العربية»، وهو قد يكون أنسب، من لقب «شاعر مقاومة» بالنسبة لشخص تورط في اللعبة السياسية في إسرائيل، وبذل جهدا في حشد التأييد لشمعون بيرس، من اجل الفوز في الانتخابات لرئاسة الحكومة الاسرائيلية، بعد ارتكابه لمجزرة قانا الأولى، بدعوى أنه أفضل من منافسه آنذاك بنيامين نتنياهو.

بل ان من يعدون نصوصا مسرحية عن قصائد لشعراء المقاومة السابقين - مثل مخرج ومعد مسرحية عن قصائد لمحمود درويش - يتبرأون ليس من لفظة مقاومة، بل من أية كلمات اقل منها وقعا. ومخرج عرض درويش مثلا خرج عن طوره لدى سؤال «الشرق الأوسط» له حول إذا كان في المسرحية أية إسقاطات سياسية تتعلق بالقضية الفلسطينية، بل وطاردنا مع آخرين من طاقم المسرحية في ساحة «مسرح الحكواتي» بالقدس وهو يصرخ بهستيريا «كفانا وضع زفر مع اللحم».

والغريب انه لدى تقديم المسرحية في دمشق أدلى المخرج نفسه بأحاديث صحافية هناك أشاد فيها بعاصمة الأمويين قلب العروبة النابض، وكلام آخر من هذا القبيل، والآن يعرض له على شاشة التلفزيون الإسرائيلي مسلسل، يلاقي نقدا من أوساط عربية داخل إسرائيل بدعوى انه يأتي في سياق اسرلتهم، وتذويب هويتهم العربية.

وقد يكون لكل من هذه الأجيال الأدبية الفلسطينية، ما يبرر موقفها، من «أدب المقاومة». وهو مصطلح قد يكون إشكاليا وخلافيا، ولكن يمكن الاتفاق على ملامح رئيسة له، مثل ارتكازه على تجارب إنسانية عميقة تعيشها الشعوب في مفارق حياتية وقدرية، تجعل يومياتها أحداثاً شديدة الدرامية.

وبالنسبة للأدباء والفنانين الفلسطينيين، فإن التفاتهم لواقع شعبهم التراجيدي قد يوسع المدارك الإبداعية لآفاق لم يجرؤ أحد على الحلم بها، ويقدم خيارات لمغامرات غير مسبوقة في الأدب الفلسطيني، مثل الأدب البوليسي أو قصص الحب في زمن الحرب، والعلاقة بين الشرق والغرب.

لكن وجود مبررات للأدباء الفلسطينيين، بالنأي بعيدا عن «أدب المقاومة»، لم تنف حاجة الواقع المتفجر دائما في الأراضي الفلسطينية، إلى أدب يحاكي هموم شعبها، الذي يكاد أن تكون حكاية كل فرد منه تصلح لعمل فني أو أدبي.

مثقفو الفصائل مواضيع كتاباتهم مرهونة بالمساعدات

وفي ظل غياب مثقفي الفصائل الفلسطينية، عن هذا الميدان، فانه ترك للهواة من المتحمسين، أولاً للقضية الوطنية، وثانيا للفن والأدب. ويمكن تلمس ذلك من الكم الهائل من الأغاني التي كتبت باللهجة الفلسطينية، ووضعت لها ألحان بسيطة، لكنها شجية، توقف فيها أصحابها عند محطات مهمة في انتفاضة الأقصى، ووصل هذا النوع من الفن إلى التداول في الدول المجاورة مثل الأردن أو سورية.

وهكذا وجدت أغان تمجد قادة المقاومة الميدانيين، الذين سقطوا شهداء، في معارك غير متكافئة، وكان كل منهم يعرف بأنه مثل سيزيف يحمل صخرته ويواصل المسير.

غالبية هذا النوع من الأغاني يخص رموز كتائب شهداء الأقصى التابعة لحركة «فتح»، ومن بينهم مثلا محمود صلاح، الذي لم تتوقف قصته عند استشهاده، بعد فترة طويلة من التخفي، والمطاردة، ولكنها تستكمل الآن، بعد أن وضع أفراد عائلته وعددهم 40 خيمة اعتصام في شارع القدس الخليل التاريخي أمام بلدته الخضر، مطالبين السلطة بتوفير مسكن لهم بدلا من المنزل الذي هدمته سلطات الاحتلال قبل خمسة أعوام.

ومن هذه الخيمة تصدح الأغاني الشجية التي تتحدث عن صلاح ورفاقه وعملياتهم التي نفذوها ضد قوات الاحتلال الإسرائيلي.

وتساءل شقيقه عيسى الذي خرج من السجن حديثا بعد أن قضى ثلاث سنوات «ترى بماذا يفكر أخي هناك في العالم الآخر وهو يرى أفراد عائلته مشردين».

واضاف لـ «الشرق الأوسط»، شقيقي وعشرات غيره لم تكتب سيرهم، وأعتقد أن ما يجري لعائلاتهم هو شيء مقصود لجعلهم أمثولة لكل من يفكر بأن يضحي بنفسه من اجل قضية، لذا يتجنب مثقفو السلطة الكتابة عنهم».

ولم يتول الهواة مهمة التاريخ بالأغاني لمسيرة رموز حركة «فتح» العسكريين، لكن الأمر أيضا يشمل فصائل كانت تفاخر بأنها تضم نخبا مثقفة، مثل الجبهة الشعبية، التي كان أحد رموزها وقادتها الكاتب الراحل الشهير غسان كنفاني. ويتولى هذه المهمة الآن هواة مجهولون، مثل مؤلفي الأغاني التي وضعت لتمجيد أمين عام الجبهة الذي اغتالته إسرائيل أبو علي مصطفى، أو شهدائها، أو الإشادة بمنفذي عملية قتل الوزير الإسرائيلي رحبعام زئيفي، والأمر ينطبق أيضا على رموز فلسطينية أخرى مثل ياسر عرفات، واحمد ياسين.

وفسر أحد الكتاب اليساريين ذلك، بالإشارة، إلى أن الكتاب والنخب الثقافية المحسوبة على اليسار، ومن بينها الجبهة الشعبية، وجدت نفسها في المنظمات غير الحكومية، ورهينة للمانحين، الذين يفضلون أعمالاً أدبية وفنية وأفلاما تسجيلية وأبحاثا ونشاطات، تتعلق بمواضيع مثل الجندر، ونشر الديمقراطية، وتمكين المرأة، وغيرها من عناوين عامة، ضمن اجندة لا يمكن أن يكون الحديث عن المقاومة، مجرد حديث، ضمن اجندتها.

* وداعاً للشعارت القديمة وأهلاً بالجندر

* وغيّر عدد كبير من الكتاب شعارهم الذي كانوا يعتبرونه مقدسا وهو «بالدم نكتب لفلسطين» إلى شعار آخر متداول في أوساطهم وهو «بالدولار نكتب للجندر» ويتغنون بموال جديد مطلعه «جندروني عيونك».

وإذا كان المثقفون أصحاب الأصوات المرتفعة في السابق، مبشرين بالاشتراكية والعدالة والتحرر، غيروا بوصلتهم بشكل حاد، فإن الأراضي الفلسطينية شهدت ما اعتبر ظاهرة جديدة، تتعلق بلجوء بعض المقاومين أنفسهم إلى كتابة سيرهم الذاتية، رغم عدم امتلاكهم لأدوات الكتابة الفنية، في حين أن الأمر في السابق كان لا يتورع عنه بعض الكتاب الذين تم تكريسهم بسبب كتابة سير مجموعات المقاومة مثل توفيق فياض، الذي اشتهر لروايته شبه التسجيلية لمجموعة مقاومة ضمت شباناً من عكا.

هذه السير كتبها معتقلون داخل السجون الإسرائيلية، بعد أن صدرت بحقهم أحكام بالمؤبدات، وكثير منها كتبت لاهداف قد لا يكون الإبداع من ضمنها مثل، «أن تكون مرشدا للشبان الفلسطينيين، كي لا يقعوا فرائس سهلة لرجال المخابرات الإسرائيلية»، أو «التعلم من الأخطاء التي وقع فيها المقاومون».

ورغم ما يمكن أن يعتبر مأخذاً فنيا على هذه السير، إلا انها تضم في ثناياها، أحداثا شديدة الدرامية، وبعضها يسجل اللحظات الأخيرة لأشخاص، قرروا الذهاب في الشوط إلى آخره، وتقديم أنفسهم قربانا لوطن، ربما لن يذكرهم في يوم من الأيام، وعاشوا تلك اللحظات المفعمة التي تختلط فيها الحياة بالموت، ويصبحان وجهين لعملة واحدة.ويفسر البعض استنكاف الكتاب في فلسطين عن خوض غمار الكتابة عن المقاومين، هو خشيتهم، من «طردهم» من زمر الأدباء والفنانين المكرسين، الذين ينعتون أي كاتب يمكن أن يكتب عن الوطن بـ «الوطنجي».

وفي مثل هذه الظروف، فإن عشرات من الكتاب يكتسبون اعتراف الآخرين بهم بصفتهم كتابا، حتى لو كان رصيد الواحد منهم مقطوعات نثرية تتضمن مفردات رائجة، مثل الجسد، والايروتيكا، والنبيذ، والمرأة، والمدينة..الخ، في حين أن أي أديب موهوب سيعيش ويموت مغمورا، إذا خاض الغمار الصعب وعبر عن نفسه، مثل الشاعر حسنين رمانة، الذي لا يرد ذكره أبداً كشاعر، لانه ببساطة جعل من حياته وقصيدته شيئاً واحداً.

* حسنين رمانة كاتب من قلب المعركة

* ورمانة ينتمي لعائلة فلسطينية من مدينة اللد، لجأت إلى مخيم الامعري المجاور لمدينة رام الله، فأصبح واحداً من آلاف الفلسطينيين الذين كتب عليهم أن يسيروا في طريق المقاومة.

ومثل كثير من أبناء جيله عرف الطريق إلى معتقلات الاحتلال مبكراً وما بين عامي 1987 - 1993م اعتقل أكثر من 10 مرات. واعتقلته أجهزة السلطة الفلسطينية في عام 1997، وتعرض رمانة للتعذيب في سجون السلطة في رام الله وأريحا وغيرهما، وهو التعذيب الذي أورثه أمراضاً عديدة في الكلى والكبد، وكان فظيعا بشكل استثنائي.

وأثناء وجود رمانة في السجن الفلسطيني، واصل كتابة القصائد غير المباشرة، متحدثا بالرموز، عن تجربة أوسلو، والمثير انه كتب بلغة جميلة وسط معاناته في زنازين الأمن الوقائي.

وبعد سنوات الاعتقال تلك أفرج عن حسنين رمانة، وكان عليه أن يكون قائدا لمجموعات من المقاومة مع اندلاع انتفاضة الأقصى، وتنسب له ومجموعته عمليات فدائية أسفرت عن قتل نحو 70 إسرائيليا، ولم تستطع سلطات الاحتلال الوصول إليه رغم ورود اسمه على قائمة المطلوبين للاغتيال إلا أنها نجحت بتاريخ 1/12/2003، واغتالته بطريقة بشعة جدا. وكان ذلك عندما تسللت وحدات خاصة إلى مدينة رام الله وحاصرت عدة بنايات كان داخل إحداها حسنين رمانة مع آخرين من رفاقه. ورفض حسنين ورفاقه الاستسلام، فلجأت سلطات الاحتلال إلى هدم البناية على رؤوسهم.

ووصفت مصادر الاستخبارات الإسرائيلية الداخلية المعروفة باسم (الشاباك) عملية اغتيال حسنين رمانة ورفاقه، حينذاك، بأنها من انجح العمليات الاستخبارية.

ورغم انه أصدر ديواناً شعرياً خلال فترة مطاردته، إلا انه لم يحظ باهتمام نقدي حتى ولو كان نسبيا. وهو أمر ليس له علاقة بالمستوى الإبداعي لشعره، ولكن لشيوع موجات أدبية أخرى في الأراضي الفلسطينية.

وإذا كان رمانة، ومثله آخرون، حاولوا كتابة أدب إنساني، وفشلوا في إيصاله، إلى المتلقين، فانه من المفارقات، أن المخيلة الشعبية نسجت قصصا عن بعض المقاومين، مثل منفذ عملية «وادي الحرامية» التي تعتبر أهم عمليات المقاومة خلال انتفاضة الأقصى، وربما أهم هذه العمليات في تاريخ الشعب الفلسطيني، وتتعلق بتنفيذ فلسطيني، عملية ضد حاجز عسكري إسرائيلي، في منطقة تدعى وادي الحرامية، تقع بين رام الله ونابلس، ببندقية قديمة، وتمكن، بمفرده من قتل 11 جنديا واصاب 9 آخرين، والعودة سالما بعد أن ترك بندقيته القديمة المتآكلة في المكان.

وتم تداول حكاية قناص «وادي الحرامية»، وتقديمه على أنه رجل كبير السن، لا ينتمي لأي فصيل، وبعد أن يئست المخابرات الإسرائيلية من القبض عليه تعاونت مع مخابرات دولة عربية والمخابرات البريطانية وتمكنت منه، بعد أن أرسلت رقم بندقيته القديمة إلى هاتين الدولتين، لمعرفة صاحبها الأصلي. ولم يكن ذلك صحيحا، ولكن كانت هناك حاجة لتصديق القصة الشعبية عن قناص «وادي الحرامية»، لفئات واسعة بما في ذلك المثقفون، حتى تمكنت قوات الاحتلال من القبض على القناص، بعد فترة طويلة. ولم يكن سوى الشاب ثائر حامد (26 عاما) من قرية سلواد قرب رام الله. وهناك نوع آخر من الأدب ذي الطابع الشعبي الذي يحاكي هموما سياسية، ينتشر ببطء، ويتداول بشكل سري، مثل مقطوعات وأهازيج تسخر من العملية السياسية ومن رموز السلطة الفلسطينية.

* إسرائيليان يكتبان سير المقاومين

* رغم أن الأدباء العرب والفلسطينيين وجهوا انتقادات لاتفاق أوسلو لو جمعت لملأت بضعة مجلدات، إلا انها كتابات لم تقترب من هموم الناس العاديين اليومية، بتلك الحميمية والجرأة والسخرية التي يعبر عنها اصحاب المقطوعات والأهازيج. وربما ذلك ما يميز، عموما، «الأدب الشعبي» الذي يبدأ عادة سرياً، حتى في عصر ثورة المعلومات غير المسبوقة.

وفي ظل إدارة المبدعين الفلسطينيين ظهورهم، إلى واقعهم المتفجر، فإن آخرين يبدون اهتماما به، ولو كان من باب الصحافة مثل جدعون ليفي، وعميرة هس، وكلاهما من صحيفة «هآرتس». وان كان ما يكتبانه عن واقع ثري بالحكايات، لا يمكن تسميته أدبا بالمعنى المتعارف إليه، وبالتأكيد لا يندرج أبداً تحت مصطلح «أدب المقاومة»، وانما ضمن القصص الصحافية، إلا انه حقق الشهرة لهما، ويتم ترجمة كتبهما بانتظام إلى اللغات الأجنبية، ويحلان ضيوفا على عواصم عالمية لتوقيع كتبهما عن الفلسطينيين.

ومن المرجح ان تتحول كتبهما إلى مصدر لا غنى عنه، وربما وحيد، لأي مؤرخ، يقرر كسر المألوف، ويريد تتبع حكايات الناس العاديين، والأبطال البسطاء الأكثر جرأة وإخلاصا، بدلا من اجترار سير أولئك الزعماء الذين يظهرون وحدهم في كتب التاريخ العربية، في حين تبقى قصص من يعطون للحياة لونا ورائحة من البسطاء، الذين يمرون سريعا على هذه الأرض، أمثولة أزلية في هذا الشرق، عن الشجاعة والإخفاق والجرأة واليأس والخيبة.

http://www.asharqalawsat.com/details.asp?section=19&issue=10641&article=454231

هناك تعليق واحد: