"سماء القدس السابعة" مدينة
الحكايات بمنظور مختلف..
...
إن
شكّلَ الفضاء المكانيّ بكلّ أبعاده التاريخيّة والجغرافيّة، مجالاً حيويّاً للرؤى
والتّصوّرات الاستعماريّة المتخيّلة على مرّ العصور، فإنّ أسامة العيسة يَعتبر
القدس في روايته "سماء القدس السابعة – المتوسّط- 2023" مسرحاً مرجعياًّ
لتطوّر السّرديّات اللاهوتيّة المتنازعة، حول هويّة المكان وانتمائه، حيث لا تشتبك
النّصوص الكبرى (التوراتيّة، الإسلاميّة، التاريخيّة، الصهيونيّة، الكنعانيّة) في
حرب سرديّة طاحنة وحسب، وإنّما حاولت جاهدة إعادة تأويل المعنى، بما يخدم
تطلّعاتها؛ فالكاتب هنا، لم يقدّم حكاية القدس كبؤرة لتاريخ غير مكتمل، بل كإطار
لمستقبل لا يزال مبهماً، مما يدفعنا مباشرة إلى قلب الصّراع الحضاريّ، والدينيّ،
والسياسيّ الدائم والمستمرّ.
...
تنهض
رواية العيسة، من حيث الشكل والمضمون، على بناء موسوعيّ، لا بالمعنى التوثيقيّ
البارد، وإنما بالبعد المعرفي المُشتبك، الذي يُمكّنه أن يؤسّس لبنية سرديّة عميقة
تُعيد طرح أسئلة الوجود والهزيمة والهويّة ضمن معمار سرديّ شبكيّ مشبع بالرّموز
والدلالات السياسيّة والثقافيّة، على نحو يمنح القارئ منظوراً مختلفاً للقدس
المدينة الضحيّة، الشاهدة، المغتصبة. لتحاكي وتجادل قصة القدس، بهذا المعنى، عديد
الرّوايات العقائديّة والفكريّة، من نصوص ومرويّات وحفريات ووقائع واهازيج
واتفاقيّات وتقارير، متقاطعة أحيانا، ومتباينة في مرات أخرى. ذلك لأنّ
"الأديان والتّاريخ تتداخل، وأسماء القبائل والشّعوب تأخذ معانيها في
سياقاتها" ص175
...
هذا
البناء الموسوعيّ، جاء مرتكزاً على ثلاثة محاور أساسيّة هي؛ القرية/ المدينة
بوصفها كناية عن فلسطين، والانكسار المتمثل في "طربلة/ عُنّة السبع"
باعتبارها مرآة لغياب الفعل العربيّ بعد النكبة وبعد نكسة، والماء كرمزٍ متحوّل
للسيادة والهويّة، وهو ما يُمكن أن نربطه بدلالات طاحونة القدس، وسلّم الكنيسة،
كذروة رمزيّة للاشتباك والتّخلّي، والانهيار والصّعود في عصور مختلفة؛ وهو ما
يُؤكّد أن هذا الجهد البحثيّ المضني، حول "مدينة نصيّة" كما القدس، كان
مهماً وضروريّاً في سياق الرّد على رواية الاستعمار، ليس بالشّعارات وحدها، وإنّما
بالحكايات أيضا؛ بعيداً عن تفسيرات قواميس اللاهوت اللغويّ، قريبا من الغوص عميقاً
في بحار الذاكرة الحيّة، ومن الذاكرة الفرديّة إلى التاريخ الجمعيّ، ومن المكان
المجرّد إلى الإنسان الرّوح، ومن الرواية السياسيّة إلى تفاصيل الحكاية التي
تتدفّق بلا توقّف، من دون التورّط في الأحكام النهائيّة، ببساطة لأنّ
"المقدّس يخلق أعداء كثيرين له، بعكس المُدنّس" ص94
...
القرية،
والانكسار، والماء، ثلاثية البقاء والحزن والحياة
أما
محور القرية، وبناء على رموزها ودلالاتها، فقد وردت في الرواية التي قدمها العيسة
في ثلاثة أسفار مترابطة، هي "سفرٌ للحياة/ وسفرٌ للحزن والحياة/ وسفرٌ للبقاء
والحزن والحياة". فلم يتناولها المؤلف القرية - باعتبارها مجرّد فضاء جغرافيّ
تدور الحكاية على جغرافيّتها، ولكن كرمز لفلسطين الوطن المغتصب، الذي ما يزال
يتعرّض لمحاولات التفكيك والتمزيق والمحو، التي تدور في زمن "الحداثة
السّائلة"، حول سيولة المعنى، حيث خلخلة الثوابت، واضطراب القيم، وتبدّل
الهويات؛ ظواهر لا تتمظهر في السلوك الفرديّ أو العائليّ أو الاجتماعيّ وحسب،
وإنّما في الأيديولوجيّ والوطنيّ والمؤسساتيّ، إذ تتمثل ثقافة الاستهلاك في الرغبة
لا الحاجة، وفي الصورة لا الأصل، وفي العرض لا القيمة.
...
وأمّا
محور "طربلة/ عُنة السبع" فقدّمها العيسة بلغة التوريّة، ليمارس حقّه في
نقد النّظام العربيّ ذاتاً وموضوعاً، إذ لا شكّ أنّ مرض الإنسان، يُعدّ أمراً
طبيعيّاً تماماً كجزء لا يتجزّأ من حياته، لكنّ مرض الأنظمة يتمثل في أفكارها المقيّدة
ومُمارساتها العاجزة، بما يعبّر عن تلك "الهياكل" المفرغة من مضمونها
ومعناها، حيث القوّة باتت مظهراً دون جوهر، والسيادة شكلاً من أشكال التشظّي،
والإرادة صيغة ادّعاء بلا ممارسة.
...
غير
أنّ محور الماء كرمزٍ متحوّل للسيادة والهويّة على أرض الواقع لا في الأسطورة،
يُمكننا اعتباره عقدة الرواية التي منها وحولها دار العيسة، لا ليقول إنّها مصدر
الحياة والبقاء والطهارة، وإنّما ليؤكّد أنها وعد النجاة ومكمن الغرق؛ ولنا في
الميثولوجيا التوراتيّة والقرآنيّة، خير دليل، فما بين الطّوفان، واللّجة، هناك من
سيغرق ومن سينجو؛ فالماء، "ماء ذكر" قد يحدث خلل ما، ويمكن لمن يشرب من
ماء العين أن يتحوّل من رجل إلى امرأة أو العكس" ص9. وهي الإشارة الحاضرة
أيضا في قول "كافل" الرّاوي: "المكان الذي وجدَت فيه الحمامةُ غصنَ
الزيتون، وأسرعت تحمله إلى النبيّ نوح التّائه في اللُّجّة" ص556
فالماء إذاً، هو رمز الحضور الفعليّ للخير،
والغياب الحصريّ للرّحمة، مما يكشف لنا أنّ الموت في الحالة الفلسطينيّة، ووفق ما
ورد في الرّواية، لم يعد نتيجة بيولوجيّة فقط ولا بطوليّة وحسب، بل هو علامة من
علامات المعنى الحائر ما بين خلاصة الحقيقة، ومظاهر طقوسها في سرديّات النّصوص
المشتبكة، التي ببساطة حوّلته من الحقيقة الأكيدة في الحياة، إلى قرار سياسيّ
يُمكنه أن يصنعه، ويؤول معناه، ويؤكّده أو ينفيه. "وأخيراً سمحت سلطات
الاحتلال بتسليم جثمان والدي ليلاً" ص556
...
كافل:
من المتلقي إلى الراوي ينتقد النظام ويراجع الفعل المقاوم
العيسة
الذي لا يعرف على ماذا يختلف الفلسطينيّون، وهم جميعاً تحت شرط الاحتلال، لم ينه
روايته، من دون أن ينتقد الممارسة الفصائليّة، ليطرح سؤال الترف السياسيّ والفكريّ
على لسان "لور" بلغة ساخرة: "لا أعرف لماذا يتوجّب علينا أن نختلف
على أيّ شيء، وكلّ شيء؟ من أين يأتينا كلّ هذا الترف؟ ص644، هذا الترف السياسيّ
والحركيّ الذي لا يليق بالواقع المأساويّ المعاش، يسلّط الضّوء على تحوّل ظاهرة
الخلاف التي يُمكنها أن تحدث داخل أيّ حركة تحرّر وطنيّ، إلى عادة فلسطينيّة
داخليّة، ليست مستقلة عن السياق الخارجيّ؛ وهي العادة التي بدأت مبكّراً مع ظهور
وتنامي حضور الثورة الفلسطينيّة المعاصرة، وصولاً إلى ما بعد الزّمن الروائيّ لطرح
الكاتب في روايته هنا، وكأنّ الذات الفلسطينيّة صارت مأخوذة بالخلاف كحالة هويّة
فرعيّة تضاف إلى، وربما تسبق، هويّته الوطنيّة.
...
هذه
التعرّية للمشهد السياسيّ الداخليّ في الساحة الفلسطينيّة، شملت اتفاق
"أوسلو" وتداعياته الاجتماعيّة والسياسيّة والاقتصاديّة، لا لشيء، ولكن
لأننا "قليلو الحظّ، وقليلو التخطيط" ص649، والبطلة "لور" هنا
لم تكن تتحدّث بلسانها، ولا حتى بلسان صانعها الروائيّ، قدر ما كانت تعبّر عن
الضمير الفلسطينيّ الغاضب على هذا التّشظي الذي إن عبر، فهو يُعبّر عن هويّة
وطنيّة مأزومة: "وكان من المؤسف، التّنافس والتّناحر، على تلك المناصب،
فالجميع أراد القطف، حتّى قبل استواء الثّمار" ص658.
...
ولأنّ
العيسة قد نجا ليروي كما وردّ على لسان بطلته لور، في إحدى رسائلها لـ
"كافل": "لقدّ نجوت. نجوت لأروي قصتي، وأنت نجوت، لتروي قصتك"
ص622، لم يسقط الكاتب، في شرّك إعلاء البطولة لسموّات فوق النّقد، ولم يتعامل مع
المقاومة باعتبارها فعلًا مقدّساً أو خالياً من العيوب، وإنّما ذهب يقاربها بوصفها
فعلًا بشرياً مُعرّضاً لكلّ ما هو نسبيّ، لا ما هو أسطوريّ مطلق، وهو ما يدفعنا
للقول إنّ العيسة، تمكنّ من أن يطلق العنان لسرديّته من موقع "النّاجي"،
لا من وهم المنتصر، لمنح آفق للمساءلة والتّأمل في الأدوات والسّبل، لا للتّمجيد
المجانيّ والشعاراتيّ للإقدام والتّضحية؛ فالنّجاة هنا هي البطولة الفرديّة التي
عليها أن تحمل الهمّ الجماعيّ، وكأن العيسة أراد أن يؤكّد على لسان بطلته، أنّ
الإشكال ليس في الفعل المقاوم، ولكن في من يحتكره، ويمنع عنه هواء الأسئلة.
هذه
المعالجة السرديّة لا تعني بأيّ حال من الأحوال نزع البطولة من سياقها، بل تعني
أهميّة وضرورة إعادة تعريفها لا بوصفها أيديولوجيّا مغلقة، وإنّما باعتبارها نزعة
أخلاقيّة تحرّريّة؛ "قال والديّ بصوت حزين: يا بُنيّ أعرف الآن أكثر من أيّ
وقت مضى، بأنّ بنادقنا، وقنابلنا عمياء، عندما تكوّن كذلك مع العدوّ، فإنّها ستصبح
أيضا كذلك مع أهلنا وناسنا، نحن فدائيّون، نعم، ونفتخر، ولكنّنا عملنا بردّة فعل،
أين هي النظريّة؟ أين هو الفكر؟" ص 633
...
الطّاحونة
والسلّم: رمزي الاشتباك والتخلّي، والانهيار والصعود
بلغة
أشبه ما تكون بالحفر العميق، راح الرّاوي "كافل" الشّاهد المتأمّل،
يُقارب بين مرويّاته، ومرويّات الأب "يوسف" السائق/المناضل، والأمّ
القلقة بمصيرها التراجيديّ، وأبي روحيّ، والعم جورج، ولور الصّديقة، والجد نقولا،
وكلّ يمثل ذلك الإنسان الفلسطينيّ، ككائن هشّ، مكسور، يحاول أن يتلمّس معنى ما حدث
ولا يزال يحدث منذ فجر التّاريخ وإلى بداية هذه الألفيّة الثّالثة؛ ليقذف بنا
جميعاً "كافل" المتلقّي والرّاوي في أتون حكاية لمدينة الحكايات بحثاً
عن اجابات محتملة لأسئلة: من نحن؟ ومن يملك الحقّ في سرد الحقيقة عنا وعن الآخر
النقيض؟ وأي سرد يمكنه أن يشكل ملحمة المأساة والمقاومة معًا؟ "فنحن نحيا
بالحكاية، ونورثها كي لا نموت مرتين".
...
في
ذروة هذا المشهد التراجيديّ، تتقاطع الطّاحونة وسلّم كنيسة القيامة بوصفهما
علامتين سرديّتين رمزيّتين معلّقتين في فضاء الاشتباك والتّخلّي، الصعود
والانهيار؛ فالطّاحونة التي تدور بلا طحن، تُحاكي صراع الفلسطينيّ مع تكرار
الأسطورة بلا نتيجة واضحة، فالمقاومةٌ مستنزفة في مواجهة طواحين احتلال مدعوم من
كلّ أنظمة الأرض، وحقول أمل تُروى بصعوبة بالغة، ولكنّها لم تفقد الحلم؛ وأمّا
السلّم، المعلّق منذ قرون على واجهة الكنيسة، فلا يصعده أحد ولا يُزال شاخصاً في
المكان، كأنّه تجسيد لجمود المصائر وتواطؤ التّاريخ مع العجز وسؤال المحنة، هل
نصعد أم ننهار؟
هكذا،
تُصبح القدس في رواية العيسة، مدينة محكومة بخوفٍ لاهوتيّ مزمن، كأنّها تعيش في
بارانويا غضب الرّب، لا كعقاب على خطيئة ما، بل كصدى نصّيّ لحكاية معلّقة لم تُكتب
نهايتها بعد، حكاية مدينة نصيّة، معلّقة بين صعودٍ مرهق، ودورانٍ أبديّ، وقصاص لم
يُعلن موعده.
...
قراءتي
لرواية العيسة في مجلة "كتاب" الشارقة العدد 83 ص90-92