أهلين

"من عرف الله سار، ومن سار طار، ومن طار حار". عجيل المقدسي.

الأحد، 21 ديسمبر 2025

وداعًا بردويل!


 


قبل ظهر يوم 26-9-2011، صعدتُ إلى قرية يبرود، تناولت تينًا عن أمه، متمتعًا بشمس معتدلة. "اكتشفت" مقامًا مجهولًا بالنسبة لي، ينسب للنبي يوسف. لم يُذكر المقام في الأدبيات الجغرافية الفلسطينَّية الخجولة، حتى لدى عبد الله مخلص، رائد الكتابة عن المكان الفلسطينيِّ، في بحثه عن المواقع المرتبطة بيوسف التوراتي والإسلاميّ في فلسطين. كان هدفي الوصول إلى برج البردويل الاستراتيجي، أشار حسين عبد الله سليمان مشارقة (65) عامًا، حينها، وهي يقف على موقع مشرف في قريته يبرود، الى طريق برية جميلة، تؤدي الى برج البردويل، الذي يطل على منطقة وادي الحرامية، الخانقة والحانقة، عنق زجاجة طريق القدس_نابلس.

رغم إعجابه بالبرج، وحديثه الحماسي عنه، إلَّا أنَّ مشارقة أقَّر أنَّه لم يفكِّر ولا مرَّة بالذهاب إليه. وصلت بقايا البرج العظيم، ورأيت رؤية مرفقاته، كالغرف متعددة الاستخدام، ومن هذه المنطقة يمكن التمتع منظر بانورامي في غاية الروعة، تزيده الجبال المحيطة بوادي الحرامية، جمالًا وروعة. أخذت غفوة على العشب وبين أشجار الزيتون. وغادرت مع مغادرة الشمس أرضنا.

يوفر الموقع، اطلالة على عدة قرى، كسلواد، والمزرعة الشرقيَّة، وعين سينيا، بالإضافة الى يبرود، ويظهر جمال مواقع هذه القرى.

يُعتقد أن اسم البرج تحريف لاسم بلدوين ملك مملكة بيت المقدس الصليبية (1100-1118م). ورد اسم بردويل، في كتب الإخباريين العرب مقصودًا به الملك بلدوين، ومن بينهم من زار فلسطين خلال الاحتلال الصليبي مثل أبو بكر الرهوي صاحب كتاب (الاشارات في معرفة الزيارات)، الذي قدم وصفًا مقتضبا لمواقع مهمة في فلسطين في تلك الفترة، ولتشكل بعض الأساطير، التي عاشت لاحقا، مثل تلك المتعلقة بمغارة الميكفلة في الحرم الابراهيمي الشريف.

المصريون بردلوا، مثلنا، الملك الصليبي، عندما كانت مصر وفلسطين (حِتىة وحدة)، يمكن تلمس التشفي بموته التراجيدي في كتابات مؤرخي المماليك، وما زال موقع موته يسمى بركة البردويل.

يطلق المحتلون على برج البردول اسم (بِشَنا)، الذي يرتفع 950م عن سطح البحر. ستكون زيارتي تلك الأخيرة. الآن يسيطر مستوطنون رعاة على الموقع. وداعًا يا برج، عله يكون وداعا مؤقتًا!

#برج_البردويل

#أسامة_العيسة

الخميس، 18 ديسمبر 2025

نزول الجبل!




 


تتوسَّع البؤرة الاستيطانية على جبل أبو زيد، لن أتمكَّن من نزوله مرَّة أخرى.

يطل مخربو التلال من موقعهم على أرض وقفية، على القدس، وبيت لحم، والبحر الميت، وإِرطاس، والخضر، وخلايل اللوز، وأبو نجيم، وغيرها.

ينزلون من جبلنا مع أغنامهم، ليسرقوا عشب أغنامنا ويضربون ويعتدون ويطلقون الرَّصاص، ويقتلون. ما زالت دماء فتيي تقوع، لزجة، لم تجف بعد.

نزلت الجبل مرَّة، مع واحد من غزلان الجبل، الأستاذ موسى سند، كانت مهمة تاريخية، في فلسطين كل شيء تاريخي، دلني على المحجر الذي قُصت منه الحجارة لبناء دير الجنة المقفلة، وكأنَّه يودعني أمانة. تحامل أُستاذي على مرضه الأخير، وبدا تعبًا ونحن نمرّ، نزولًا، على دار الراهب، وبئرها الضخمة، أخذ استراحات كثيرة، وقوفًا أو جلوسًا، وبلسمه المخفِّف شفط سيجارة، يتصاعد دخانها يغطي وجهه الشاحب ربَّما كان هذا آخر لقاء لي معه، قبل أن يسترح في رقدته الأخيرة أسفل الجبل، قبالة الدير، وبجوار عين ارطاس وواديها الممتد، تكاد فلفلة الست لويزة تظلله.

من نزولات الجبل، مع يوسف وشاهر وربعهما، في مسار لاستكشاف مقاطع من قناة السبيل التي حملت المياه إلى القدس، وتوثيق أحد نفقي القناة بطول 120 مترًا، بينما الآخر في جبل المكبر بطول 400 مترًا، شقه الأسلاف، بضربات المعاول، لاختصار 4 كلم من طول القناة. استرحنا عند دار الراهب، ونفخ يوسف في نار الصاجية، وغنى وربعه، من أغاني الانتفاضة الأولى.

صعدت الجبل أكثر من مرَّة لاقتفاء أنقابًا رومانيَّة، وتحديد مواقع غير مكشوفة للقناة، ولاستكشاف مساحة الاستيطان، الذي يتجسَّد الآن. قطعة من الجنان قُفلت علينا، وتهددنا. يقول من يعرف منا، أنَّ ما يظهر في الصورة  كنيس. فتحت شباكي أمس مع ضيفي عوَّاد، عشية سفره إلى أبو ظبي، فرأينا الكنيس يطل ويقترب. تناقشنا

ليس الموقع الوحيد الذي يضيق سجننا! كم سيطول حرماننا من جبلنا؟

#موسى_سند #يوسف_أبو_طاعة #عواد_الجعفري #أسامة_العيسة

الأربعاء، 17 ديسمبر 2025

رجال الورد!


 


المثير، بالنسبة لمثلي في عسير، الثرية ميثلوجيًا وغموضًا وشغفًا وغيمًا وشجرًا وماءً، هم رجال الورد. هي المنطقة التي حدَّدها المؤرخ المهم كمال الصليبي، موقعًا للحدث التوراتي، وفق نهج أخرق، لا يناسب ألمعيته؛ الحدث صحيح لكن الخطأ في الجغرافيا، وسار خلفه قطيع من الخُرْق.

عرفت سعير وجبال السراة من أعمال الكاتب السعودي عبد العزيز مشري، خلال اقامتي القصيرة في تلك البلاد، تراسلنا، وأدهشني، مثل آخرين، بهذا الأدب الجديد، إلى جانب شعراء كعلي الدميني، ومحمد الثبيتي، وعبد الله الصيخان، برزوا في فترة صراع بين المحافظين والحداثيين في الدولة الممتدة.

رحل المشري الجنوبي، ورغم قيمته الفنية، وهو واحد من الذين نوه بهم صنع الله إبراهيم، خلال رفضة لتلك الجائزة، لكن الغريب، أنَّه في حين استمر الاحتفاء بمجايليه ممن ذكرت، بدا وكأنَّه أُمعن في غياب.

قرأت لاحقًا، أكثر من رواية مهمة عن الجنوب السعودي، من بينها رواية أحمد أبو دهمان: الحزام، التي كتبها بالفرنسيَّة، وأعاد كتابتها بالعربية، وغلافها واحد من رجال الورد.

رواية أبو دهمان قصيرة، قد يكون كتبها بطلب من سلسلة أدبية فرنسية، لتعريف قاريء الفرنسية بعوالم مختلفة. أعتقد أنَّها كُتبت أو خضعت لقواعد تحرير صارمة، تناسب السلاسل الأدبية العالمية. بسبب ذلك أو برغمه، وبموهبة أبو دهمان، فإنها واحدة من الروايات العربية القصيرة الجاذبة.

رحيل أبو دهمان (1949 - 14 كانون الأوّل 2025) ، ذكرّني بروايته الحزام، وهي قد تكون وحيدته الأدبية. للكتب أجنحة!

#عبد_العزيز_مشري #أحمد_أبو_دهمان #رواية_الحزام #أسامة_العيسة

الثلاثاء، 16 ديسمبر 2025

كتاب بين شهيد وشهيد!


 


تعلو باسمة التكروري، في الكتابة الفلسطينيَّة الجديدة، أدبًا وبحثًا وترجمةً، بكتابتها عن أماكن خبرتها، خصوصًا نابلس والقدس ويافا، ويبدو غربيًا بالنسبة لي كم العثراث والأخطاء عن الأماكن في الكتابات الجديدة، في رواية تخبرنا أنَّها عن جَدَّها، وأنَّ عليًا الشخص الرئيس في الرواية، مستوحى من حياة الجد محمد التكروري التميمي، وبذلك تدخل في اختبار الكتابة عن العائلة. أعتقد أن الكتابة عن العائلة هو الاختبار الأهم لصنعة الكتابة، يُجهبذ، بين كاتب وآخر، ولأسبابٍ كثيرة فإنَّ كثيرين من الكتَّاب العرب، يخفقون في هذا المجال.

تشير الكاتبة، إلى أعلام من عائلتها. شخصيًا أذكر بتقدير، رفيق التميمي، المثقف المهم في النصف الأوَّل من القرن العشرين، الذي درَّس في الكلية الصلاحية، قبل تحوّلها إلى كنيسة كاثوليكية، على اسم القديسة حِنة. ناس القدس يسمونها كنيسة الصلاحية، في ترابط هُوياتي ملحوظ. لعب محمد رفيق، أدوارًا سياسيَّة وطنيَّة. لكن قد يكون أهم إنجازه كتابه/ التقرير عن أحوال ولاية بيروت في أواخر الحقبة العثمانيَّة الطويلة. كُلف رفيق وزميله محمد بهجت، من والي بيروت الإصلاحي، كتابة تقرير عن أحوال الولاية، فسار ورفيقه في أنحاء الولاية من طرطوس إلى نابلس، وأمدانا بمعلومات هامة عن واقع ناسنا. تقريره أغضب ناسه النابلسيين، عندما استخدم مناهج بحثه العصرية لوصفهم. بالنسبة لي أعود دائمًا لكتاب رفيق ورفيقه (الطبعة الأولى 1914م)، الذي تُرجم جزء منه مؤخرًا إلى العبرية. أكاد لا أصدق الظروف التي عاشها ناسنا، مثلًا في نابلس وسلفيت، وكيف تمكَّن شعبنا في ظروف كتلك النهوض، ومغالبة الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس.

تعرف باسمة نفسها واحدة من سلالة العائلة، ككاتبة وشاعرة مقدسية. ومثل كل تعريف فإنَّه إشكالي. لا يقال عادة كاتب نابلسي أو ناشط وكاتب خليلي أو أسير تلحمي، لكن مقدسي تلصق بكل هذه الصفات، لمن يحمل بطاقة إقامة في القدس من الاحتلال. لكلمة مقدسي/ ة حمولات غير أدبيَّة، لا أعتقد أنَّها مناسبة لتقديم كاتب لنفسه، يكفي أن يكون كاتبًا، دون الاتكاء على إيحاءات.

رغم العلاقة التي عرفناها بين الجَدّ في الواقع، وعلي في الرواية، فإنّ القاريء أمام نصّ مصنَّف رواية، وسيتتبع الأحداث بهذا التصنيف، وتنتابه مشاعر من التشويق، لمسار الأحداث، بلغةٍ تميَّزت بها الكاتبة، مدركًا النهاية التي ستصلها الرواية، فالكاتبة تفتتح روايتها بوجود علي في مشفى في القدس الجديدة، التي تسميها الغربية، إثر دهسه بمركبة عسكريَّة احتلالية في باب الأسباط، خلال مجزرة ارتكبها الاحتلال في عام 1990م. أذكر أجواء المجزرة، وكتبت عنها تحقيقًا مطولًا تضمن شهادات، بتكليف من الراحل خليل توما، لصالح مجلة اليسار القاهرية التي كان مراسلها. وبين مولده في نابلس واستشهاده في القدس، نعرف الكثير عن علي، ومأساته الشخصية في تقاطع مع مآسي شعبه وتطورات سياسية في فلسطين والإقليم.

تظهر في الرواية ثنائية تنتمي لرواية القرن التاسع عشر، فمحمد رمز لشرٍّ مطلق، وعلي رمز مضاد آخر. ربما مثل هذه الثنائيات تناسب عمل سيري أكثر من رواية. آمل أن يحين الوقت لتكتب الكاتبة كتاب سيري، بوثائق وبتوسع، وبتفاصيل وصراعات، وخلفيات سياسية واجتماعية، ووقع دول تكالبت على البلاد، في حياة جَدَّها. تقترب الرواية، من أن تكون رواية عائلية عن الجد والجدة، وهذا قد يناقض الفعل الأدبيّ. فباستثناء محمد أخ الجد، فباقي الشخوص مثالية أو تقترب منها.

ربما اختارت الكاتبة الرواية، لكتابة سيرة جدها، لإدراكها أننا في زمن الرواية، لكنَّني أعتقد أنَّ لليوميَّات والمذكرات والسير، مكانة مهمة في المقولات الأدبية المعاصرة، كما كانت في الماضي.

رواية أخرى عن القدس، العصية أدبيًا. تحاكي فلمًا سينمائيًا، قد يشوبه إلحاح مشاهد على نهاية سعيدة نسبيًا، أو تحفظه على صناعة مشهد، إلَّا أنه يتمنى لو أنه يطول. تمتلك باسمة الموهبة وجَلد الكتابة، وهما من أهم أدوات صنعة الكتابة وقد يظهر ذلك بوضوح في أعمالٍ مقبلة.

قرأت الرواية في ليلة باردة، أراقب المطر الخفيف من خلف الشباك، بعد بضع صفحات وصلني خبر ارتقاء الشهيد الفتى عمَّار صباح (16) عامًا، ارتقى في تقوع تحت المطر أمس، ليس بعيدًا عن معتزلي في خلايل اللوز. أصوات غضب ناسه وصلت للسماء الماطرة. بعد دفنه اليوم (16/12/ 2025)، وأنا أطوي آخر صفحة من الرواية، ارتقى الفتى مهيب جبران (16) عامًا، الذي انضم لرفيقه بعد مشاركته رحلته الأخيرة. لتصبح رحلة واحدة.

يا للدم المسفوح على تخوم برية القدس!

#باسمة_التكروري #رواية_الإمام #أسامة_العيسة

الأحد، 14 ديسمبر 2025

جماعة تورنتو الثقافيَّة!


 



يجهد كمأل الرياحي وباسمة التكروري وعبد الله الخطيب، لخلق حالة ثقافيَّة عربيَّة، بعيدًا عن العالم العربي المأزوم، وربَّما تؤكد سِيرهم الأزمة. أراهن دائمًا على مشاريع المثقفين الفردية. علنا نسمع الجديد دائمًا عن جماعة تورنتو الثقافيَّة، كحالة ومآلات غير مأزومة.

سعدت وزميلي إياد شماسنة بلقاء عبد الله الخطيب، في شرفة ساحة المهد، تحرسنا أضواء القدس، وامتداد البريَّة، ولُمع مادبا وما حولها من بعيد. حدَّثنا عن بيت الخيال في تورنتو، ومعارض كتب وغيرها من مشاريع. نقاش حول المشروع الثقافيِّ والهويَّة وقناته على اليوتيوب: مقهى الخطيب الثقافي،  وكتابه حول العهد القديم، ورحلته الحالية في فلسطين. عودة إلى الجذور في حوش الخطيب، في بيت لحم القديمة.

بيت لحم تنهض، وتتجدَّد، مثلما فعلت منذ أكثر من ألفي عام، مع ميلاد السيِّد الَّذي لا يموت. لقاء حميم مع ابنها العائد، ولو لحظيًا. العزيز عبد الله. سعدنا بك.

#إياد_شماسنة #باسمة_التكروري #كمال_الرياحي #عبد_الله_الخطيب #أسامة_العيسة


السبت، 13 ديسمبر 2025

طريق القدس (1-2)


 


في الصورة، التي أتحفنا بها نشطاء الفيس، حافلة خطّ القدس- بيت لحم، أو تابعة لشركة الباصات الوطنيَّة (القدس- الخليل)، بمحاذاة طنطور فرعون، واحد من أكثر الأوابد حيرةً وجدلًا في القدس. من باب البروباغندا الأدبيَّة، أشير إلى أن أحد الأسماء التي اقترحت لروايتي سماء القدس السابعة، هو طنطور فرعون.

الحافلة في وادي النَّار، أو وادي جهنم، أو وادي سِتنا مريم، أو وادي الجوز، أو وادي يهوشفاط (بعض الصفحات الفلسطينية المتحمسة تذكر بغباء وادي شعفاط) أو وادي سلوان، وقد أنهكته الديانات الإبراهيميَّة أسطرة.

الحافلة، على الأرجح، في طريق العودة إلى بيت لحم أو الخليل، الزمن قبل ذلك الحزيران، الذي أدخل مصطلح النكسة في تاريخنا المنكوب، وكأنَّه لم يكن ينقصه إلَّا الانتكاس.

نكبت النكبة الطريق الى القدس، واغلق بالقرب من دير مار الياس، وأضحت المنطقة منطقة حرام، بين الطرفين الأردني والإسرائيليِّ، لكن في الواقع تركت المنازل والقصور فريسة للمحتلين. أسكن فيها، خصوصًا من اليهود الشرقيِّين، لرفض الغربيِين السكن قرب خطوط النَّار وإن كانت نارًا هامدة. بالنسبة للشرقيِّين فإنَّ الانتقال من خيام مخيمات الاستيعاب، كمخيم معسكر اللنبي، القريب من الكلية العربيَّة، إلى القصور الحجرية، كالصعود إلى جنان عدن.

استحدثت طريق وادي النَّار النَّارية المتلوية كأفعى، ولكن الأمر لم يطل، فأصبحت طريق القدس، أقل وعورة. وإن كانت لا تنافس الطريق التَّاريخيَّة.

ناس مخيم الدهيشة من جيل النكبة الأوَّل، جرَّبوا الطريق الجديدة، مشيًا طقسيًا. بعد صلاة الفجر أيَّام الجمع في مسجدهم، أو بعدها ينطلقون في حجٍ إلى القدس، يستقطبون أبناء لهم خشية إمعانهم في الارتهان للأيديولوجيات الهدَّامة المسيطرة على المخيم، وتعد ناسه بالتحرير والنصر والوحدة والاشتراكيَّة، وإن كانت تصارعت على أسبقية الوحدة أو التحرير، حُبرت الأفكار والمنافرات وحيَّرت واستنزفت الأدمغة والحناجر. جيل الآباء كان يعرف أنَّه يخوض سجالًا غير متوازن مع الأبناء الأغرار الَّذين لا يسمعون النصائح، ففي المدرسة مثلًا كان المدير صبحي الناشف بعثيًا والمدير اللاحق خضر قبيع الطرزي، بعثيًا أيضًا، وكذلك موسى درويش، وكان الصيدلي الشاب الذي يحمل في حقيبته عينات الأدوية، يوزع المناشير، الآباء المستعجلين لم يصبروا ليزمن الزمن. أصبح الصيدلي أبطر أباطرة صناعة الأدوية.

لأسباب لا أعرفها، جميع البعثيين، أصبحوا لاحقا من الشق الصدَّامي العراقي في الحزب، الذي أطلق عليه الجناح السوري الأسدي، الجناح اليمينيِّ.

من أبرز المدرِّسين الشيوعيِّين محمود الخطيب، خريج الصف السادس في مدرسة زكريا الأميرية، قبل النكبة، والمستشار اللغوي للشاعر خليل زقطان، أوَّل مدير لمدرسة الخيام في المخيم. زقطان هو صاحب ديوان صوت الجياع، طبعه في مطبعة دار الأيتام الإسلاميَّة في القدس، وكان صدوره مؤثرًا في جيل من الشعراء الشباب آنذاك، كما ذكر الراحل عزّ الدين المناصرة. من المدرسين القوميِّين والناصريين: أحمد برهوم. الكاتب رشاد أبو شاور ابن المختار الشيوعيِّ، يذكر أسماء مدرسين آخرين في المدرسة: سليمان مزهر، ونمر العطابي، وأحمد العجوري.

ينطلق الموكب من المخيم إلى قُبَّة سِتنا راحيل الَّتي يُفترض أنَّها قضت في المكان وهي تضع بنيامين الَّذي أخذ اسمه من واقعة موت أمه بعد يومين، فأصبح ابن اليومين في الذاكرة الشعبيَّة، سيذكره البابا فرنسيس (2014) وغيره من إخوة خرجوا من بطن راحيل، التي عاشت مـأساته الخاصة في ملحمة حياتها مع يعقوب. قال البابا المحبوب، الذي خلف بابا غير محبوب مستفز: ما زالت راحيل تبكي أبناءها!، في قدّاس في ساحة المهد، على بعد رمية من القُبَّة التي وقف البابا على جدارها المحيط والتقى أبناء مخيم عايدة القريبة، في رسالة قوية ضد الجدران، أزعجت من بنوها.

يكملون السير إلى البلوطة وهذا يذكرهم بالأيام الخوالي، عندما كان الوصول إليها يعني أنَّ القدس أصبحت على بعد رمية. عند الوصول إلى دير مار الياس، ينحرفون مع يمين معسكر الجيش الأردني المرابط على الحدود الجديدة، منهم من يتتبع خط قناة السبيل التي نقلت الماء إلى القدس وخدمت أكثر من ألفي عام، حتى نكبتها النكبة، وبقي منها المواسير الإنجليزية التي جلس عليها أطفال المخيم وأولاده يؤرجحون أرجلهم.

يتأسون على دار السقا، القريبة من دير ما الياس، التي سماها بعضهم دار المجانين. خلال حرب النكبة، استولى عليها الجيش المصري، واستخدمها ضمن المعارك التي دار حول القدس وبيت لحم، خصوصا ضد مستعمرة رمات راحيل. سيلاحق صاحب الدار، المصريين، إلى القاهرة بعد نكبة البلاد والعباد، ليحصِّل حقه، ولكنَّه عاد خائبًا، ولم يكن ذلك نهاية المأسي.

يصلون أم طوبا وصور باهر، حتى جبل المكبِّر، منهم من يسترح في مقهى أبو جوهر، الموقع المهم على طريق القدس الجديدة، ربَّما توقف عنده الملك حسين، في طريقه الى بيت لحم والحليل، وربما توقف عنده البابا بولس السادس، في زيارته التَّاريخيَّة للأرض المقدَّسة، قبل أن يتوقف عند دير مار الياس التَّاريخي، ويرى ما حدث لشارع القدس- الخليل التَّاريخي. ربَّما ملَّ من الأرض المقدَّسة التي قد تكون تاريخيتها، من أسباب مآسيها.

التوقف عند أبو جوهر له مغزى عندما يرون القُبَّة الأموية مسيطرة على المشهد في بلدة القدس القديمة. لقد فعلها عبد الملك، وهي يؤسِّس لإمبراطوريَّة عربيَّة، ويعربن فلسطين. ربَّما خيِّل لأحدهم أنَّه يقف موقف النبي ابراهيم عندما وصل البلاد الموعودة، فرأى المكان ودهش، رغم أنَّه يُفترض أن وجود لهياكل أو أوابد على التلة الصغيرة المشرفة على وادي جهنم، وكنيسة الجثمانية وقبر سِتنا مريم وغيرها. في عملية تثاقف تُميِّز الأرض المقدسة، ستتكرَّر الحادثة في عهدٍ جديد، انبهر الخليفة الثَّاني عمر بن الخطاب، بما يمكن أن يكون هيكلًا مدمر فكبَّر، وسمي الجبل بالمكبِّر، أمَّا بالنسبة للمسيحيِّين فهو ليس إلَّا جبل المشورة الفاسدة التي ستودي بالسيِّد الَّذي ترك مسكنه السماوي ليحاول إصلاح بشر الأرض المحيرين. لكن هيهات، ففي الأرض المقدَّسة تجارب لوطيء الموت بالموتِ، وكما فعلها أدونيس، فعلها السيِّد، أزاح صخرة القبر، وصعد، ليرعى ناس الأرض من عَليه.

يواصل المشاة العظام نزولًا إلى سلوان بمحاذاة الثُوري، يتوقفون طويلًا في عين سلوان المؤسطرة، يستحمون ويتطهرون، وإذا مُنحو أعينًا كعيني جبرا إبراهيم جبرا فسيلفتهم قبر سِتنا مريم، الذي زاره معاوية ابن سفيان. ثم يصعدون إلى قبتهم الأولى، الذي قال لي موسى درويش في نقاشٍ، ليؤكِّد العلاقة بين الإسلام والعروبة، كيف أنَّ ربّ العرش اختار مكة، قُبلة من أجل عروبة الرسول العربيِّ الكريم. من البعثيِّين من عد الرسول العربي، أوَّل بعثيّ!

بعد انتهاء الصلاة، منهم من يظل لصلاة العصر أو المغرب، ينطلقون في شوارع القدس القديمة، منهم من يشتري الكُسبة من مطحنة السمسم في باب السلسلة، أو مُطبق زلاطيمو الشهير الشهي، أو الكعك الطريّ، أو التمرية.  ثم يركبون الحافلة كما في الصورة ليعودوا من نفس الطريق.

يبدو لي أن المشي الطقسي، قد يكون معادلًا للمظاهرات الصاخبة التي تستقطب الشبان وتنطلق من المخيم إلى بيت لحم.

#أسامة_العيسة

الثلاثاء، 9 ديسمبر 2025

بيت شمسنا المشرقة!


 


من ينظر من تل زكريا، غربًا، سيرسل رمشه، سجادة تمشي عليها عيناه، تكتحل بخضرة تبدو لا نهائية، تعانق السحاب، في لقائه النادر مع بحرنا في عسقلان وأسدود، وتلال وقرى أقيمت على مستوطنات بشرية تزيد أعمارها عن أربعة ألاف عام. يبدو الأمر غريبًا، كيف يمكن أن تحافظ هذه المستقرات على هوياتها، وأحيانًا أسمائها القديمة مصحفة؛ عجُّور، تلّ الصافي، بيت جبرين، إِمغلِّس، دير الذبان، البريج، سجد، ذِكرين، وغيرها، مرورًا بمستقرات ما زال تحمل أسماء التلال، كتل الترمس، وأخرى تناسب انسيابتها، كقسطينة، وفيها كلها، مزيج بشري؛ امتزاج من الشام والحجاز ومصر والمغرب، ليشكِّل شعبًا، جدلت هويته تحديات مستحيلة.

ومن ينظر إلى الشرق، فستكتحل العيون بجبال الخليل والقدس الناهضة، وإذا قرَّب نظره إلى الأسفل، فسيستكين قلبه عند معبد بيت الشمس المشرقة، مطلًا على وادي البطم، المعروف كتابيًا باسم وادي إيلا المؤسطر، بالفتى داود وجليات الفلسطينيِّ، سيؤسطره العرب بطالوت وجالوت.

أسفرت الحفريات الموسمية، التي تتم بدون موافقتنا، عن ثروة من الأبحاث ورسائل الماجستير والدكتوراه. تنضم إلى ما سبقها من آلاف الصفحات عن نتائج حفريات بدأت منذ أكثر من قرن، يمكن مراجعتها على موقع أرشيف متعدِّد اللغات.

حظي معبد الشمس، بدراسة جديدة بعنوان: "بيت الشمس المشرقة: معبد عزيقة الكنعاني"، بتوقيع أودد ليبشيتس، وهانا م. ريبس، ومانفريد أومينغ، وسابين كليمان.

تعرض الدراسة اكتشاف المعبد على أعلى المنحدر الشرقي لتلّ زكريا، وهو هيكل مقدَّس يواجه الشمس المشرقة، التي كانت تضيء أحجاره البيضاء، وجدرانه المجصصة، وأعمدته الوردية كل صباح. أسس المعبد في العصر البرونزي المتأخر، وهي فترة ازدهر فيها تلنا تحت الإدارة المصريَّة وأصبح أحد أهم مراكز منطقة الهضاب المنخفضة.

حسب الدارسين، بدأ المعبد ملاذًا مفتوحًا مع إطلالة نحو وادي البطم، ومرتفعات الخليل والقدس، فيه مذبح حجري مستدير كبير مع حوض، وكلاهما مغطى بالجص. انتصب عمود من الحجر الجيري المصقول بجانب المذبح ليعكس أوَّل ضوء للفجر.

يوازي التوجه الشرقي للمعبد بشكل وثيق المعابد الشمسية المصرية في القرنين 14-12 قبل الميلاد، وهي المعابد المخصصة للولادة اليومية للشمس.

في القرن الثاني عشر قبل الميلاد، عندما وصل تلّ زكريا العصر البرونزي ذروته، أعيد بناء بيت الشمس المشرقة المفتوح، كمعبد مسوَّر ضخم.

عثر على سبعة مصابيح طقسية، تناسب السياقات الثقافية المتأخرة في عصر البرونز وفي وقت مبكر من العصر الحديدي. يشابه المعبد الجديد أمثاله في التلال المعروفة، مثل تل لخيش (قبيبة أبو عوَّاد) وحاصور (تل القدح).

يقع الفناء الرئيس للمعبد في الجنوب الغربي منه، مرصوف بأرضية حصى، استخدم في الاحتفالات العامة، والطقوس والمناسبات الدينية.

يخلص الباحثون، إلى أنَّ المعبد يكشف عن صورة حية: لم يكن تلّ زكريا مدينة محصنة فقط، بل أيضًا مركز طقوس رئيس في العالم الدينيِّ والسياسيّ في أواخر العصر البرونزيّ، مما يعكس علاقات قوية مع مصر الفرعونية مع الحفاظ على هوية محليَّة.

تل زكريا، تلنا، بيت الشمس المشرقة، الذي عودتنا! آخر مرَّة تفقدت معبدنا في الخامس من أكتوبر 2023م. غادرت مع مغيب الشمس في بحرنا الكبير. أعرف أنَّها تولد في كل صباح من بحرنا الصغير المويلح، ترمي خيوطها على معبدنا!

#قرية_زكريا #تل_زكريا #أسامة_العيسة

السبت، 6 ديسمبر 2025

أبو سعاد!


 


أنا واحد من كثيرين، شكَّل لنا سعيد العاص، المناضل المخضرم، ملمحًا غامضًا يُقتدى، حتَّى قبل معرفة حكاياته الكثيرة. والسبب ضريحه في قرية الخضر في عرقوب القدس.

أُسطر العاص، الَّذي استشهد في معركة، ستحمل عدة أسماء، خلال ثورة الفلَّاحين، كمعركة الخضر ومعركة حوسان. أُصيب في المعركة مساعده عبد القادر الحسيني، الذي سيتمكَّن من الهروب من المستشفى الحكومي في القدس. كيف حدث ذلك؟  هل تلقى مساعدة من جنود بريطانييِّن متعاطفين؟ هذا موضوع آخر، لا يحب الفلسطينيُّون سماع حكايات التعاطف البريطانيّ، وهي حكايات مهمة ومؤثرة، ومثالها الأبرز، العمليَّات التي خطَّط لها الحسيني، لاحقًا، من مقره في بير زيت، وأشعلت شوارع القدس الجديدة. أمَّا المفاجأة، بوجود قائد بريطاني رفيع جدًا، ساند الجانب الفلسطينيّ، ولاحقته فرق الاغتيال، بعد تأسيس دولة الاحتلال. هذه أيضا قصة أخرى.

حقَّقت في ظروف استشهاد العاص، في منطقة وادي الغويط، ما بين قرى الخَضر، وحُوسان ونَحَّالين، في عرقوب القدس، الَّذي يمتد غربًا حتى الهضاب المنخفضة، صرة التقاء باب وادي القدس، صعودًا إلى جبل الخليل، وامتدادًا غربيًا إلى السهل الساحليِّ. يتخلل ذلك وادي الصرار، بطول يصل إلى أكثر من 70 كلم، يصب في البحر الشامي، بجوار النبي روبين، حيث موسم الصيف الفلسطينيِّ، الذي نُكب مع النكبة.

سار الرحالة ناصر خسرو على شارع القدس الخليل عام 1074, ووصف هذه القرى إنَّها جنة عدن. في التثاقف الاستعماري، يفخر المستوطنون، بما ذكره الرحالة الفارسي.

لسعيد العاص، حصة في روايتي وردة أريحا. لا يحتاج التذكير بأبي سعاد، وهي كنية المناضل صاحب السجل من العهد العثماني. مناسبة. ولكن التذكر مناسبته ما نشرته الكاتبة الملتزمة وطنيًا وقوميًا وطبقيًا ناديا خوست، ابنة التسعين ربيعًا، على صفحتها الفيسبوكية عن أبي سعاد. ومقطع من روايتها: وداع ولقاء في بلاد الشام (2002). التي تظهر فيها سعاد، طفلة يتيمة مريضة، لم يكن يملك والدها، حسب خوست، ثمن الدواء. تذكر الروائية، كيف تبنت: "نساء القدس وعمان جمع التبرعات لابنته سعاد".

حسب الروايات المحلية التي جمعتها، فإنَّ سعاد زارت قبر والدها في قرية الخضر، بقبته الخضراء، التي بنيت بتبرعات الخضريِّين، والتقت مع شهود عيان على معركة استشهاد والدها، التي حشد لها البريطانيَّون مئات الجنود، ارتقى أبو سعاد واقفًا. الضريح الآن محاط بالجدار الاحتلالي، قريبًا من حاجز شارع الأنفاق، الذي أراده المحتلون، بديلًا عن شارع القدس-الخليل التاريخي، فحفروا الجبال، وشقوا الشارع، وما زالوا يشقون، وفق المنهج الديكارتي، حسب إيال وايزمن.

انتمى أبو سعاد للحزب القومي السوري. يذكر شيخ المناضلين بهجت أبو غربية في مذكراته، أنَّ أبا سعاد زار فلسطين، للترويج لكتاب له.

#ناديا_خوست #سعيد_العاص #رواية_وردة_أريحا #أسامة_العيسة

الجمعة، 5 ديسمبر 2025

تسكع تحت سماء بيت لحم/ جميل أبو حسين


 


صدفة التقينا

فنادى علينا الماضي البعيد، فردّ عليه أسامة العيسة

جاهزون للتّسَكّع كما كنا في ذاك الزمن

فمشينا في شوارع المدينة نتسكَّع على طريقتنا

تلك المدينة التي تغيَّرت كثيرًا وحاراتها القديمة وسوقها القديم وادراجها وصولاً إلى باحة الكنيسة.

ساعات ثلاث تحدثنا فيها كثيرًا عن كل شيء وفي كل شيء في السياسة والأدب وسألنا أنفسنا كثيرًا كما كانت عاداتنا القديمة.

#جميل_أبو_حسين #الياس_حلبي #ساحة_المهد #أسامة_العيسة