يمضي جورج نسطاس، معظم وقته في منزل العائلة
قرب دير مار الياس، الواقع بين بيت لحم والقدس، بينما تستمر أعمال إنشاءات
احتلالية واسعة، في المنطقة، بجانب المنزل، الذي يظهر كجزيرة وسط الإنشاءات
الاحتلالية، خشية من التعرض إليه.
يعتبر نسطاس المنزل الحجري القديم، في منطقة
تابعة لمدينة بيت لحم، لكن سلطات الاحتلال، ضمتها إلى حدود بلدية القدس
الاحتلالية، بعد حزيران 1967م، شاهدا على التطورات السياسية التي شهدتها البلاد
خلال أكثر من قرن.
عمر المنزل أكثر من قرن، وأجبرت قوات
الاحتلال، عائلة نسطاس، على هدم ما أضافته إلى البناء القائم، ومنه بئر مياه. خلال
النكبة، عسكر الجيش المصري قريبا من المنزل، وبعد اتفاقات الهدنة، أصبح المنزل
بمحاذاة المنطقة الحرام، وفتح شارع بجواره، ليصبح شارع القدس-بيت حم.
يعتبر جد نسطاس، الذي يحمل اسمه، رائد السكن
والتعزيب في المنطقة، التي تظهر فيها مقاطع مهمة من قناة السبيل التي نقلت المياه
من برك سليمان، جنوب بيت لحم، إلى القدس، والمدينة الاستيطانية هار حوما، المقامة
على جبل أبو غنيم، وتتوسع باستمرار.
يتذكر نسطاس، جده جورج سعيد نسطاس الذي عرف
بكنية أبو عفيفة، على اسم ابنته الكبرى، وحكاياته وطرائفه، ومنها الحكاية التي
استمرت كإرث عائلي.
خلال الثورة الفلسطينية الكبرى، سكن بالقرب
من منزل عائله نسطاس، حسين علي أبو حامد، من بلدة صور باهر القريبة، كان أبو حامد
ناشطا في صفوف الثوار، وأصيب خلال إحدى العمليات، فأنقذه أبو عفيفة، ما أدى إلى
تآخي العائلتين، وأصبحت حكايتهما إرث عائلي لدى العائلتين، ظل الكبار يرددونها، ولكن مرور السنوات، وتغير
الظروف، ورحيل بطلي الحكاية، جعلها تتوارى.
تعرف جورج نسطاس، على فؤاد أبو حامد الذي يدير
مركزا صحيا في بلدة بيت صفافا، التي يسكن فيها نسطاس حاليا، وخلال حديثهما، تبين
أن كل منهما يحمل جزءا من حكاية التآخي تلك التي كان بطلاها جديهما، فقررا إعادة
الاعتبار للحكاية، ومقابلة أكبر شاهد عليها.
انتظر نسطاس، بناء على موعد مسبق، بحضور
مراسلنا، أبا حامد، في مدخل بلدة صور باهر، لمقابلة محمد حسين أبو حامد، وهو ابن الراحل، وعم فؤاد.
ولد محمد حسين أبو حامد (أبو حسين) عام
1940م، وهو مربي متقاعد، ودارس للتاريخ، وحاصل على الماجستير في التاريخ، في رسالة
عن قضاء القدس في العصر المملوكي.
استقبل أبو حامد، جورج نسطاس، بحرارة، في
منزله مؤكدا على التآخي بين العائلتين، وقدم جزءه من الحكاية كما سمعها من والده،
الذي رحل عن عالمنا في صيف عام 1990م: "انضم والدي، للبوليس الإنجليزي، كما
فعل كثير من الشباب العرب، وفي مرحلة معينة، قدم استقالته، وعمل فلاحا، يضمن كروم
التين والأشجار من أهالي بيت لحم، ويعزب في الأراضي قرب دير مار الياس، شهرين أو
ثلاثة كل عام، وتعرف على جاره أبي عفيفة، عندما بدأت الثورة الفلسطينية، منظمة،
وغير منظمة، التحق والدي بالثوار، وكلف من جماعة المفتي الحاج أمين بقص أسلاك
الكهرباء، أعطوه مقصا، واستعد لتنفيذ المهمة، ولم تكن المهمة الأولى، فسبق أن أصيب
بالرصاص خلال مهام سابقة".
يضيف أبو حامد: "كما روى لي والدي،
فإنه صعد إلى عمود الكهرباء، وما إن هم بقطع السلك، حتى وجد نفسه، مقذوفا، بصعقة
كهربائية، إلى مسافة بعيدة. بعد ساعات افتقده الرجال الذين يرونه يوميا، وبدأوا
البحث عنه".
يتدخل جورج نسطاس الحفيد: "جدي كان
فلاحا، يخرج مبكرا جدا، لقطف التين، قبل العصافير، واكتشف مكان صديقه أبو حامد،
وعرف خطورة إصابته، سمعت من والدتي، أن جدي طلب منها ومن شقيقتها الأكبر عفيفة،
الجلوس قرب صديقه الجريح النازف، بعد أن غطى الجروح بالقش، طالبا منه الصبر حتى
يجد طريقة لنقله وعلاجه. ذهب أبو عفيفة إلى صور باهر، وأخبر من يجب إخباره، فحضروا
وحملوا الجريح على سلم، ونقلوه لتلقي العلاج".
كان الحفاظ على السرية، امرأ مهما،
فالانجليز وصلوا إلى الموقع لمعرفة ما جرى، ولكنهم لم يعثروا إلا على المقص، ولم
يستدلوا على مكان الثائر.
يروي محمد أبو حامد، ما حدث مع والده لاحقا:
"ذهب رجال من صور باهر إلى القدس وأخبروا القيادة عن حالة والدي، فتقرر نقله إلى
بيروت للعلاج، وأمضى هناك نحو عام، خضع فيها للعلاج".
يتذكر أبو حامد: "كان والدي يريني
الرصاص الذي ما زال في رجليه، ولم يفضل الأطباء في بيروت إزالته، قائلين أنهم لو
فعلوا ذلك فانه لم يتمكن من السير".
عرفت عالتا نسطاس وأبو حامد في المنطقة،
كعائلة واحدة متآخية. يذكر نسطاس، نقلا على لسان والدته، التي عندما تزوجت في عام
1943م، كيف جاء: "أخوة العائلة من بيت صفافا، ومعهم ذبيحة".
لا يتذكر محمد أبو حامد، الجد جورج نسطاس
كثيرا، ويقول أنه شاهده مرة واحدة، عندما كان طالبا عائدا إلى المنزل فرآه مع جده،
وكان نسطاس قد جلب "لأخيه زجاجات من زيت الزيتون" وفي ذلك النهار، تغدى
نسطاس على مائدة أخيه، بعد ذبح دجاجة.
رحل أبو عفيفة في عام 1976م، وحزن عليه أخيه
أبو حامد كثيرا.
فؤاد أبو حامد، الذي يبدو فخورا بجده، لم
يكن على علم بهذه الحكاية. يقول: "أعرف عائلة نسطاس منذ عشرين عاما، بحكم
عملي في بيت صفافا، ولكنني لم أعرف حكاية التآخي، حتى سمعتها مؤخرا، من عمي
وزوجته. فسألت جورج الذي أكدها، فتأثرت، لقد كان جدي أحد وجهاء صور باهر، وأثر
فينا، وما زالت ذكراه حاضرة".
يضيف فؤاد: "أنا فخور بعائلة نسطاس،
وجدهم صاحب النخوة الذي أنقذ جدى، وسيكون ذلك مدعاة لتوطيد العلاقات بيننا، فنحن
فعلا عائلة واحدة".
يوافق جورج نسطاس، الحفيد على ذلك، ويقول:
"كما اعتبر جدانا العائلتين، عائلة واحدة، نحن أيضا نعتبرهما، عائلة
واحدة".
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق