في الرابع عشر من تشرين الأول 1948، اضطر أهالي قرية زكريا، في الهضاب الفلسطينية المنخفضة، إلى ترك قريتهم، وأصبح ذلك اليوم، تاريخا لنكبتهم الخاصة، وهي جزء من نكبة شعبنا العامة.
استقبلت القرية، خلال الأشهر التي سبقت نكبتها الخاصة، كثير من المنكوبين، خصوصا من قرى القدس الغربية، وحتى من اللد، وأصبح رجال القرية، أمام تحد، في توفير المأمن للاجئين الجدد، والتقديرات كلها تؤشر إلى إنها ستكون رحلة لجوء قصيرة سيعودون بعدها إلى قريتهم، ولكن ما حدث، هو أن أهالي قرية زكريا ومعهم "ضيوفهم" من المهجرين، اضطروا للخروج في رحلة لجوء، حسبوها قصيرة، ولكنها ما زالت ممتدة حتى الآن.
يتذكر إبراهيم الخطيب (أبو وسيم) ذلك اليوم الذي تحوَّل إلى منعطف تاريخي لديه، وأهالي قريته: "لقد هجرنا قسريا من قريتنا الحبيبة، ضُربت قرية زكريا الصغيرة بالمدافع وقنابل المورتر، وانتثرت حبيباته أمام بيتنا وبيوت كثيرة أخرى، حاولت الإمساك بواحدة، ظننتها جلا، مثل الذي نلعب به، لسعني بحرارته تركته صارخا، فزع الناس وكسا الاصفرار من الرعب وجوههم، لأنهم لا يملكون ما يدافعون به عن أنفسهم، سرت الإشاعات بأن قوات الهاغاناة خرجت من محطة عرتوف متجهة نحو القرية، ضوضاء وصخب مع هلع أربك الناس فبعثرهم هاربين في اتجاهات مختلفة".
يضيف أبو وسيم المقيم في العاصمة الأردنية عمّان: "لم يلبث أن صدم الناس خبر صاعق؛ مذبحة لعدد من الهاربين في وادي بولس شمال شرقي البلدة، اختلف الناس في تعدادهم، تضخمت الإشاعة. وتدحرجت كرة ثلج: ٥ ثم ٧ ف١٢، أُطلق عليهم الرصاص وقطعوا إربا، مما زاد في ارتباك الناس وجزعهم".
يشير الخطيب، إلى ما دخل في تاريخ قرية زكريا بوصف المذبحة التي ذُبح فيها حرفيا ثلاثة من أهالي القرية: الشيخ عبد الفتاح الكواملة، وعبد الله جفّال، وإبراهيم عليان الكواملة، وأطلق القتلة سراح الفتى فايز ذيب الكواملة 13 عامًا، وسراح جدته أديبة، وقريبته هدية، ليخبروا الأهالي عمّا جرى، لبث الرعب بينهم.
يقول مصطفى عدوي اللاجئ في مخيم الدهيشة قرب بيت لحم: "اعتقد أن الجريمة المروعة، وذبح الثلاثة من الوريد، عجلت في رحيل أهالي زكريا إلى الضياع".
يتابع الخطيب: "جموع من الناس تترك القرية متجهة لقرى متعددة من قضاء الخليل. حيث معارف كل منهم في: ترقوميا، وبيت أولا، وخراس وغيرها. نصيبي وأنا ابن سبع سنين أن أمشي حافيا تأكل الأشواك قدمي الصغيرتين، لا تزال وخزاتها تخترق راسي حتى اليوم كلما تذكرت ذلك اليوم المشؤوم، بالإضافة ليومين من الجوع حفرت في نفسي أخاديد من ألم معوي وتقلصات أجبرتني على تناول ورق الشجر في محاولة طفولية لإسكاته. شاركني في كل هذا ابن أختي إبراهيم أبو لبن، كان الأهل قد اتجهوا إما للخليل أو سعير، ولم يبق معنا من الجمع غير أمي، التي تسولت بعد أن رأت حالنا المأساوي بعضا من طحين عجنته وخبزته على النار، وأنقذتنا مما نحن فيه من جوع وألام تقطع أمعاءنا. ازدردنا ما وجدنا بلهفة. وتعلمنا ثاني دروس النكبة؛ الأشواك والتعب ثم الجوع الذي يقترب من فقدان الحياة بمفهوم طفولتنا، إنه ١٤/١٠/١٩٤٨، يوم بؤس لبداية حياة زادت أيام تعاستها كثيرا عن أيام صفوها".
ترك ابن القرية الراحل محمد أمير عبد الفتاح علي خالد عدوي، مذكرات وثق فيها أبرز محطات الخروج واللجوء من قريته: "هاجرنا من زكريا في يوم الاثنين الواقع 14-10-1948 إلى ترقوميا ومكثنا فيها 15 يوما، ثم إلى خربة خرزة قرب بير إعركة، مكثنا فيها 7 أيام ثم إلى قرية سعير في يوم الثلاثاء الواقع 1 محرم 1368 ه، فمكثنا فيها أربعة شهور وعشرة أيام".
قدم عدوي في مذكراته المخطوطة، وصفا مؤثرا لداره التي هجرت منها عائلته في قرية زكريا:
"تقع دارنا شرقي مسجد نبيّ الله زكريا عليه السلام، على بعد خمسين مترا من المسجد تجد شارع على يدك الشمال وأنت مشرق من المسجد فدارنا في داخل هذا الشارع تتألف من ثلاث غرف منها واحدة في شمال الشارع واثنتان في جنوب الشارع، منها واحدة خشب والثانية عقد جملون، ثم من بعد الشارع على بعد عشرة أمتار منه إلى الشرق الجنوبي توجد دارنا الكبيرة مؤلفة من خمس غرف لها طابق علوي وطابق سفلي وفيها ثلاث غرف خشب، مساحتها من الشمال إلى الجنوب 37 مترا، وعرضها من الشرق إلى الغرب 20 مترا، يوجد بها في الجنوب بئر ماء قرب الشارع العام الذي ينزل على بئر البلد السفلاني. يحدها من الشرق..".
رحل الحاج عدوي، بعد سنوات من النكبة، بعيدا عن داره، في مدينة بيت جالا، لاجئا، حالما بالعودة إلى تلك الدار.
http://www.alhaya.ps/ar/Article/141055/%D8%AA%D9%84%D9%83-%D8%AF%D8%A7%D8%B1%D9%8A-%D8%B0%D9%83%D8%B1%D9%89-%D8%AA%D9%87%D8%AC%D9%8A%D8%B1-%D9%82%D8%B1%D9%8A%D8%A9-%D8%B2%D9%83%D8%B1%D9%8A%D8%A7
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق