أهلين

"من عرف الله سار، ومن سار طار، ومن طار حار". عجيل المقدسي.

الجمعة، 6 يونيو 2008

صراع على عش غراب



تشتهر مدينة بيت ساحور، بكونها مدينة حقل الرعاة، لوقوع ما يعتقد انه الحقل الذي بشر فيه المجوس، الرعاة بولادة السيد المسيح عليه السلام، ولكنها تشتهر الان بكونها، إحدى نقاط التوتر بين المواطنين الفلسطينيين، والمستوطنين اليهود، والمرشحة لوقوع احداث عنف فيها. وخلال شهر أيار / مايو الماضي، اقتحمت مجموعات من المستوطنين بقيادة نادية مطر، زعيمة منظمة نساء بالأخضر اليهودية المتطرفة، اكثر من مرة، منطقة ( عش غراب ) الاستراتيجية شرق بيت ساحور، في محاولة لإعادة السيطرة على الموقع، الذي كان أخلاه جيش الاحتلال في وقت سابق.

واستخدم الإسرائيليون الموقع كمعسكر لجيشهم، بعد الاحتلال عام 1967، وأسموه معسكر (شيدما)، واصبح خلال انتفاضة الأقصى، أحد المواقع العسكرية الهامة بالنسبة للإسرائيليين. وعن تاريخ الموقع يقول يعقوب الأطرش الذي يسكن قبالة عش غراب "في عام 1965، وضعت الحكومة الأردنية، يدها على مناطق واسعة من أراضي المدن في الضفة الغربية، لإقامة معسكرات تدريب تستوعب المكلفين الذين سيؤدون الخدمة العسكرية، وكانت بيت ساحور من ضمن هذه المواقع، فتم اقتطاع ما مساحته 80 دونما من أراضى المواطنين في منطقة عشر غراب، وتم إنشاء معسكرا عليها، وتوزعت بركسات الجيش الأردني على هذه المساحة دون الإخلال بطبيعة الأرض".

وحدث تغير جوهري بعد عام 1967، كما يشير الأطرش "بعد سقوط الضفة الغربية بأيدي قوات الاحتلال الإسرائيلي، وضع الاحتلال الجديد يده على المعسكرات في الضفة الغربية، وباشرت سلطات الاحتلال بإدارة الأراضي المحتلة منها، أما فيما يتعلق بعش غراب، فقد وضعت إسرائيل يدها على جميع محاور جبل عش غراب والأراضي المتاخمة له، ومنعت أعمال البناء بالقرب من المكان، وأصبحت مساحة المعسكر، في طرفة عين 450 دونما، تم تسييجها بالأسلاك الشائكة".

وبالقرب من هذا المعسكر أقيمت مستوطنات يهودية، وشقت شوارع لخدمة المستوطنين، وربط كثير من المستوطنات بالقدس، حتى عام 2000، فمع اشتعال انتفاضة الأقصى، اصبح هذا المعسكر، قاعدة لقصف منازل المواطنين في بيت ساحور، مما أدى إلى تدمير عدد من المنازل وتهجير سكانها ومن بينهم عائلة يعقوب الأطرش، ومنه تم ارتكاب أول عملية اغتيال في انتفاضة الأقصى، التي كان ضحيتها الشهيد حسين عبيات وامرأتان من المارة.
وأدخلت سلطات الاحتلال تحصينات على المعسكر، وتحول إلى قلعة عسكرية، وخلال أعمال تحصين المعسكر وقعت مفاجأة مثيرة في وسط أجواء الانتفاضة، ففي أثناء حفر منصة إطلاق للدبابات، تم اكتشاف مقبرة بيزنطية محفورة في الصخر، يوجد داخلها عدة قبور مستطيلة متوازية حفرت في الحجر الكلسي، وعثر في إحداها على هيكل عظمي لإنسان وثلاثة قناديل فخارية سليمة عليها كتابة باليونانية.

وكشفت المقبرة من قبل جندي من سلاح الهندسة، وهو يعمل على إنشاء منصة إطلاق للدبابة، حين لاحظ عندما جرف كمية تراب كبيرة وجود فتحة مستطيلة وسط التراب، وفوجيء عندما نظر بداخلها بوجود درج يقود لمغارة ارتفاعها اكثر من مترين. وتم استدعاء عالم الآثار شاجر بص، المسؤول الإسرائيلي عن الآثار في الضفة الغربية واعتبر أن الاكتشاف مهم جدا وقال بان هذه المقبرة بقيت مغلقة طوال 1500 عام، وعمليا فان الزمن فيها توقف، حتى تم العثور عليها، واعتبر أن هذه الحقيقة ستتيح لعلماء الآثار معرفة الكثير من عادات الدفن في الفترة البيزنطية.

ولم يسمح الجيش الإسرائيلي للأثرين الإسرائيليين، إجراء حفريات في المنطقة، في تلك الظروف التي كانت فيها الانتفاضة تتصاعد، وما عثر في هذا القبر رحل إلى المخازن الإسرائيلية المختصة. وحول ذلك يقول الأطرش "في عام 2000، وبعد أن دمرت قوات الجيش الإسرائيلي الأحياء الفلسطينية القريبة من المعسكر، بدأت الجرافات الإسرائيلية تتحرك ضمن مخطط جديد، ففي البداية دمرت جميع البركسات التي بناها الأردنيون، ثم تم تجميع المعدات والقوات داخل ثكنة عسكرية محصنة، وشملت عملية التجريف الواسعة، قمة جبل عش غراب، وتم بناء سواتر ترابية بطول اكثر من عشرة أمتار، وبنيت داخل هذه السواتر ممرات واستحكامات من الاسمنت المسلح".

ويضيف "في أثناء عمليات التحصين الواسع للمعسكر، برزت أمام سلطات الاحتلال قضية مهمة هي الآثار المسيحية في الموقع، فتم تدميرها بالكامل، وللتغطية على هذا الأمر، نشرت الصحف الإسرائيلية خبر اكتشاف القبر البيزنطي، وبان الإسرائيليين حافظوا عليه بعد اكتشافه". وفي تحرك غير متوقع، اعتبر سابقة، غادر جنود الاحتلال المعسكر فجأة يوم 20 نيسان (أبريل) 2006، وسحبوا معداتهم إلى معسكر أخر للجيش بالقرب من إحدى المستوطنات، دون معرفة سبب ذلك.

وفاجأ الانسحاب الإسرائيلي من المعسكر جمهور المواطنين وكذلك السلطة الفلسطينية، التي لم ينسق معها الانسحاب. وأدى هذا الانسحاب إلى إرباك الفلسطينيين، فأجهزة السلطة لم تعرف ماذا تفعل خصوصا وان المعسكر يقع في مناطق ذات سيادة وسيطرة إسرائيلية كاملة، في حين هرع المواطنون بعد استيعاب المفاجأة إلى المكان، ومعظمهم يدخله لأول مرة، ليتعرفوا على هذه القلعة العسكرية التي طالما ذاقوا ويلاتها.

وما حدث في الأيام التالية للانسحاب الإسرائيلي، كان مقلقا للفلسطينيين، حيث عمد عشرات من الشبان العاطلين عن العمل، إلى المعسكر لتفكيك ما يمكن حمله لبيعه لتجار الخردوات، الأمر الذي طرح أسئلة أخلاقية كثيرة. وفي الأيام الأولى للانسحاب الإسرائيلي من المعسكر كان يمكن رؤية بعض المعالم الأثرية في المكان، مثل القبر البيزنطي الفريد، ولكن الفوضى، ومنقبي الآثار غير الشرعيين أحدثوا تدميرا لأجزاء منه وكذلك آثار أخرى هامة، من بينها آبار مياه محفورة في الصخر، وإشارات واضحة تركها على الصخور الذين سكنوا في المكان، في زمن غير معلوم.

وتوجد في الموقع أقنية محفورة في الصخر، وبقايا معاصر زيت منقورة في الصخور أيضا، وهناك مؤشرات مؤكدة على وجود مغر محفورة في الصخور، ويستدل على ذلك مما يبرز من النحت في مداخلها. وعندما أفاقت مؤسسات السلطة، على ما يجري في منطقة عش غراب، كان الأمر قد فات، ولم يدر بخلد أحد، أن الموقع المهمل، سيعود إلى واجهة الأحداث من جديد، إلا في الخامس عشر من شهر أيار (مايو) 2008، عندما اقتحمت مجموعة من المستوطنين المنطقة، ووضعت حجر الأساس لمستوطنة جديدة باسم (شيدما).

وحاولت مجموعة من الفلسطينيين التصدي للمستوطنين، ولكن جنود الاحتلال الذين وفروا حماية للمستوطنين اعتدوا على الفلسطينيين. وقالت زعيمة المقتحمين نادية مطر بان الهدف هو توجيه رسالة إلى الرئيس الأميركي جورج بوش الذي كان وصل إلى إسرائيل، ليلقي خطابا في الكنيست. وأشارت بان إعادة احتلال المكان، هو للفت نظر بوش، لكي يدعم الاستيطان في الأراضي الفلسطينية، وفي الواقع فان بوش لم يكن يحتاج لهذه اللفتة من مطر ومجموعتها التي بلغت 100 مستوطن ومستوطنة، فهو تعهد أمام المشرعين الإسرائيليين بالوقوف معهم ليس فقط ضد من اسماهم الإرهابيين الفلسطينيين، ولكن ضد أي خطر يواجه إسرائيل خصوصا من جانب إيران، معتبرا أن السماح لإيران بالحصول على سلاح نووي سيكون "خيانة لا تغتفر".

وقال بوش، وسط التصفيق الحار من أعضاء الكنيست "الولايات المتحدة تقف معكم للقضاء على الشبكات الإرهابية وحرمان المتطرفين من أي ملاذ"، مضيفا أن "شعب إسرائيل قد يزيد على سبعة ملايين نسمة بقليل لكن عندما تواجهون الإرهاب والشر فسيكون عددكم 307 ملايين لأن أميركا إلى جانبكم".

وهناك في عش غراب كانت نادية مطر تقول للصحافيين، الذين لم يقتنعوا بمسالة لفت انتباه بوش، مشددة "سنستمر في النضال، نريد العودة واحتلال أرض هذا المعسكر لمنع الفلسطينيين من الإقامة فيه". ولم يملك المسؤولون الفلسطينيون الذين عجزوا عن استغلال فرصة انسحاب الجيش الإسرائيلي من المكان، لإعادة تأهيله، وسد الفراغ الذي أحدثه خروج الجيش منه، إلا إصدار البيانات المنددة بتصرف المستوطنين، واعتبروا أن اقتحام المستوطنين للمكان يكشف عن ما أسموها "حقيقة النوايا الإسرائيلية التي تأتى في إطار سياسة عامة تعزز الاستيطان الإسرائيلي في الأراضي الفلسطينية".

أما محترفو إصدار البيانات من الفصائل السياسية فوجهوا، كما يفعلون، دائما نداء للقيادة الفلسطينية والوفد المفاوض لوقف المفاوضات مع إسرائيل، ودعوا الجهات الراعية للعملية السلمية الضغط على إسرائيل لوقف الاعتداءات على الأرض الفلسطينية. وفي يوم الجمعة الماضي 30 أيار (مايو) عاود المستوطنون اقتحام منطقة عش غراب، وتركوا على ما تبقى من جدران في المعسكر شعارات تشير إلى هدفهم، وهو بناء مدينة استيطانية، تصل بين مجموعات من المستوطنات جنوب القدس، مع مستوطنة هار حوما (جبل أبو غنيم) التي طرحت الحكومة الإسرائيلية قبل أيام عطاءات للبناء فيها.

وهذه المرة، لم يتحرك أحد لمواجهة المستوطنين، سواء من المواطنين المحبطين والذين يعرفون أن بناء مستوطنة جديدة في منطقة عش غراب الاستراتيجية، سيهدد وجودهم، أو من قبل أجهزة السلطة الفلسطينية، أو الفصائل التي لم تتحرك لإصدار بيانات تنديد مثل كل مرة.

http://www.elaph.com/ElaphWeb/Politics/2008/6/337254.htm

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق