من مَفاتيح فك سرديَّة
إبراهيم الخطيب (أبو وسيم)، والولوج إليها، في منجزه (مِن على شُرفة
العمر-عمَّان-2023)، ثنائية السلطة والهزيمة.
يخيِّم شبح السلطات
وواقعيتها وسَطوتِها، على سيرته المبتسرة (الجزئية)؛ الاحتلال، المخابرات والأمن،
المختار، المجتمع، الثأر الذي لم ينته رغم تعاقب القرون، سلطة مدير المدرسة،
الطائفة، نُخب كل الاحتلالات، بقايا الإقطاع، الجمال الأنثويِّ، وغيرها.
لن يؤدي ذلك إلَّا
إلى مزيدٍ من الهزائم، في الوطن، والحب، والأفكار، والتعليم، وغيرها.
حالت النكبة دون تطور
المجتمع الفلسطينيِّ، وحوَّلت الفلَّاحين، بضربة سحرية، إلى هامشيين على حواف
المدن الريفية التي لجأوا إليها، لم تكن لنا قبل النكبة، سوى يافا مدينة، تصارع تل
أبيب، ولم تكن النكبة، في أحد وجوهها الرئيسة، سوى انتصار مدينة المستوطنين اليهود
الجديدة، على مدينة الفلسطينيِّين، المثقلة بتاريخها وتقاليدها، وقيود العشائرية،
والاستقطاب الثنائي العائليِّ (حسيني-نشاشيبي)، وميتافيزقيا الشعارات العربية.
رغم ضرب النكبة،
لعلاقات الإنتاج الفلاحية، إلا أنَّ ما صمد منها، كما يمكن أن نستشف من سرديَّة
أبي وسيم، هي الثارات العائلية القاسية، التي يقول إنَّها كانت سببًا في الوشاية
ضده لدى سلطات الأمن، لثارات عمرها ثلاثة قرون بين عائلته وعائلة الوشاة.
طبعاً، حن نسمع من
طرف واحد، ولكن المؤكد هو العلاقة بين العائلية الصلدة والملاحقة الأمنية
السياسية. يتجنب أبو وسيم، الحديث عن نشاطه السياسي في سنوات مخيم الدهيشة الفوارة
في عقدي الخمسينات والستينات من القرن الماضي، بل ينفيه، رغم وجود شهادات شفوية
سمعتها، تؤكد عكس ذلك.
تترك الملاحقة
الأمنية السياسية ندوبا، لا يعالجها مرور الوقت، وإن جُملت. حصلت من أرشيف دولة
الاحتلال على وثائق الملاحقة السياسيَّة للشيوعيين في خمسينات القرن الماضي، في
ملف تزيد عدد صفحاته عن أربعمائة صفحة، ومنها ما يتعلَّق بشخوصٍ من مخيم الدهيشة،
ومنهم، من أقارب أبي وسيم وأعزائه. سيكون من المؤلم، الإحساس بشعور أهالي معتقلي
المخيم آنذاك، وهم يهانون في الأضابير الأمنية البيروقراطية.
يمكن للمرء أن يشعر
بالمقت، من فظاعة الملاحقة السياسية، وتفاهة أسبابها. كانت دولة الاحتلال الناشئة
تتغلب على صعابها، وتمضي قدما، وتخطط لابتلاع من تبقى من فلسطين الانتدابية (وهو
ما ستنجح بتحقيقه مع احتلال أراض عربية أخرى بحيث تضاعفت مساحتها مرتين).
في حين أن نشوة النصر
لم تسكر قادة دولة الاحتلال الوليدة إلَّا قليلا فإنَّ مجتمعات المهزومين عاشت
تناقضاتها. ونجد كيف المجتمع العربي المثقل بالعائلية والملاحقة السياسية الأمنية،
سيئن وصولًا لهزيمة منكرة، ما زالت تصوغ حيواتنا.
لم تكن الهزائم، في
كتاب أبي وسيم، سياسية وحياتية، فقط، ولكن بعض الهزائم-المآسي، أساسها طائفيِّ، كدراما
علاقة الحب التي ربطت معلم، بمعلمة من غير طائفته، خطَّها أبو وسيم، بحروف كاتب
متمرِّس، تنتهي بهزيمة المعلمة التي تختار دير الكرمل تدفن نفسها فيه حيَّةً، أمَّا
المعلم، فيرتقي أكاديميًا، ولكنًه يبقى وفيًا لحبٍ مهزوم.
لم يتمكَّن المجتمع
الفلسطينيِّ الهش، والمفكك، من تحصين نفسه ضد الاعتقال السياسيِّ، وسنرى كيف يصبح
مناضلون، ومثقفون، تروسا في آلات قمع السلطات الشرقية.
أصبحت العشائرية
سلطة، ليست هشة، ليهددها بوست فيسبوكي عادي، ولكنَّها تستغله لتعزيز سلطتها، وتقديم
نفسها كمنافس وسط أنيميا السلطات.
لقد خدشت مناعة
المجتمع إزاء الحريات العامة، ولا نجد من ينتصر لحرية الرأي أو الكتابة، قبل
المجتمع، بالشعارات المدغدغة، بديلا.
رأينا درجنة
العائلية، من عائلات وطنية قبل أوسلو، إلى عائلات تنهج الزبائنية، وتشغل أبناءها،
أمَّا الطائفية، فنخرت في حطبات المجتمع القليلة.
ليس في سيرة أبو وسيم
المنتخبة، فالكتابة، هي في النهاية، فعل انتخاب، مزاعم متطاولة، أو بطولات عنترية،
فأخفى، ما يحول دون إظهار السارد، بطلًا بدون بطولة، ولكنَّه قد لا يكون حالفه
الحظّ كثيرًا، فخسر القراء، ما كان يمكن أن يفصح عنه أبو وسيم، من يوميَّات الحياة
السياسيّة والحزبيَّة، في مخيم الدهيشة، وفي عمَّان لاحقًا، حيث يكشف عن دور
قيادي-سياسي له في تنظيم فلسطيني، على الأغلب ينتهي، هذا الدور في عام 1969م.
قد لا يفهم القارئ،
سبب إحجام أبو وسيم، عن خوض، ما وجب خوضه (كما يأمل القارئ الشغوف)، ما دام قرَّر،
كما يمكن أن نستنتج إزاحة الستائر الثقيلة عن شُرفات العمر المديد والمتجدِّد،
بفعل الكتابة.
نحن إزاء كتاب ذكي،
وهو نوع محفِّز، ولكنَّه يتواضع، بشكلٍ غير نادر، ليدغدغ مشاعر شعبوية، ما يفسح
لتعدّد الخطابات السرديَّة، وفي ذهن الكاتب، كما يبدو، شرائح متلقية متعددة، وقد
يكون هذا خدش السبيكة الأدبيَّة، التي صنعتها يد جوهرجي كلمات.
تتوارى مسقط الرأس
والروح زكريا، في مذكرات أبي وسيم، إلَّا نتفًا، مما يؤمل بعمل آخر، مؤجَّل، آمل
أن يكون قريبًا.
هُجِّر أبو وسيم، من
قريته زكريا، في الهضاب الفلسطينية المنخفضة، صغيرًا، ومنزل عائلته هو واحد من
ثلاثة منازل على الأقل، ما زالت موجودة في القرية المهودة. في مذكراته، لا يكتب عن
رحلة الخروج الدرامية، ولكن عن نشأته في مخيم الدهيشة.
التاريخ يكتبه
المنتصرون، بالنسبة لمجتمع فلسطيني يودع محتلًا ليستقبل آخرا، فله سجل مع تاريخ
المنتصرين. يمكن
أن تكون فلسطين، موضوع دراسة معيارية، فلدينا تاريخ كتبه المنتصرون المسلمون
بتنوعهم، والفروسية الصليبية، والإمبريالية البريطانية، والكولونيالية الصهيونية.
للمهزومين أن يفعلوا
مثل أبي وسيم، يخطون حكايات ويوميات. تشدد الجماعة الوطنية على تأميم الرواية
الجمعية، لعدم اعترافها بفردانية البشر، وخصوصيهم، فتسعى لوضعهم في بوتقة الصهر.
تمردوا على السلطات الجمعية؛
الوطنية، والثورية، والعائلية، والطائفية، والتعليمية، والأبوية، واكتبوا ذواتكم.
ربَّما، يجلس في قاعة
شبيهة بقاعتا هذه، بعد عقود، مهتمون، مثقلون بثلاثية الهزيمة: السياسة، والطائفة،
والعائلية، ويخلصون، إلى أن الاحتلال، لم يكن المعضلة الرئيسة التي واجهت شعبنا.
لقد اتسع الخرق على
الراتق!، إن وجد أصلًا!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق