عندما وصلت على
الساعة الثالثة والنصف فجرًا، إلى الحاجز العسكري الفاصل بين مدينتي بيت لحم
والقدس، الذي يسمى المعبر، لم يكن الوقت مبكرًا بالنسبة لأصحاب الأكشاك، الذي
يحتلون الرصيف وعلى امتداد نحو 300 متر. إنها سوق جديدة، تظهر فجأة الساعة الثانية
فجرًا، أو قبل ذلك، كما يقول أبو حسن أحد أصحاب الأكشاك، وتختفي في ساعات الصباح
عندما ينتهي مرور العمّال، على الحاجز الذي يعتبر الأسوأ من بين الحواجز العسكرية الإسرائيلية،
ويمر عبره حسب تقديرات محلية ما بين 10-15 ألف عامل، من محافظتي بيت لحم والخليل.
يبيع أصحاب الأكشاك، الألبان،
والأجبان، والمعلبات، والخبز، والمخللات، وغيرها من أغراض يحتاجها العمّال ويضيئون
أكشاكهم بلمبات لِد بيضاء تعمل على البطاريات، وهذه الأكشاك تعمل جيدًا، كما قال أحد
العمّال الذين يعملون فيها، وبعضها يشغّل أكثر من عامل.
وبالإضافة إلى هذه الأكشاك،
هناك من يصنع الفلافل، ويبيع شطائرها ساخنة للعمّال، الذي خرجوا مبكرًا دون تناول
فطورهم. وتنتشر بسطات لبيع الفواكه والخضار، والتي يستمر عملها حتى عودة العمّال
من أعمالهم، ويعبرون المعبر، عائدين.
ركضا نحو المعبر..!
كانت حركة العمّال
الذين ينزلون من الحافلات والمركبات مختلفة الأحجام سريعة، وما أن ينزل العامل من الحافلة،
حتى يتجه ركضًا نحو المعبر، فالكل يريد أن يعبر الحاجز الذي تطلق عليه دولة
الاحتلال حاجز 300 للوصول مبكرًا، أو في الوقت المناسب، إلى مكان عمله.
"بعد قليل سترى
كيف يصبح الازدحام، والذي يصل ذروته الساعة الخامسة، مع تدفق المزيد من العمّال من
جبل الخليل، الذين يأتون بحافلات تُنزِّل العمّال على مسافة من الحاجز، بينما
تحاول المركبات الأخرى الاقتراب أكثر من مدخل الحاجز"-قال أبو حسن وهو يرتشف
القهوة السادة.
في مدخل المعبر، وهو
في الواقع عبارة عن عدة مداخل ومسارب، وقف شابان يحملان أوراقا مختلفة يدعوان العمّال
إلى التوقيع على عريضة ستتضمن نصف مليون توقيع لإلغاء الضمان الاجتماعي.
واستخدم الناشطان، وـحدهما
طالب جامعي، ما في جعبتهما من أساليب الدعاية لإقناع العمّال، بضرورة التوقيع. ولم
تكن الاستجابة كبيرة من العمّال المسرعين للدخول إلى الحاجز، حيث تنتظرهم عدة
محطات أخرى من التفتيش والتدقيق في البطاقات الشخصية.
رغم أنها لم تمطر، إلّا
أن سقف المعبر تتسرب منه نقاط من المياه، بسبب تكون الندى، تسقط على رؤوس العمّال،
وقال أحدهم: "إذا كان الوضع هكذا بدون مطر، عليك توقع، كيف سيكون عندما تمطر
الدنيا، وتسح علينا المياه، ونحن نرتجف من البرد".
التسلق فوق رؤوس
العمّال
تزدحم المسارب، مع
مرور الوقت، بالعمّال، ويمكن ملاحظة أن عددًا من العمّال خصوصًا الأصغر سنا، لا
يلتزمون بالدور، فيتسلقون القضبان، متخذين طريقا مختصرة للوصول إلى مدخل المعبر الأوّل
الذي عندما يعبره العامل، عليه أن يدخل المراحل الأكثر صعوبة وجدية، من تفتيش
وتدقيق، حتى الخروج من المعبر.
يدرك الجميع أن
المتسلقين يعتدون على أدوار غيرهم من العمّال الذين ينتظرون خصوصًا وان حركة
مرورهم تصبح بطيئة مع مرور الوقت، وازدحام المعبر، إلى درجة أن العمّال أنفسهم
يشبهون وضعهم كالأسماك المحشورة في علبة سردين.
سألت عددًا من
المتسلقين عن سبب لجؤوئهم إلى هذه الطريقة، وعدم احترام أدوار غيرهم، إلّا أي
منهم، لم يكن لديه الاستعداد للتوقف والإجابة، وكأنهم في سباق رياضي، وعليهم
الوصول أولاً.
ولفت انتباهي عدم
اعتراض العمّال الذين يصطفون على الدور، في ظروف صعبة من الضغط والتدافع على المتسلقين،
وسألت عددًا منهم عن ذلك. قال أحدهم: "كما ترى الدنيا الفجر، ولا يوجد مزاج لأي
أحد منّا للدخول في مناوشات وتلاسن وربما ضرب بالأيدي مع أحد، وفي النهاية، الكل
منّا يريد العبور بأسرع وقت وبسلام، فلا وقت لدينا نضيعه في تفاهات صغيرة، ربما
تنعكس علينا تأخيرًا".
وقال عامل آخر:
"في الواقع أنه تحدث في أحيانٍ كثيرة شجارات بسبب التعدي على الدور، ولكن
المتسلقين لا يأبهون بمطالباتنا باحترام الدور، فيستمرون في المسير أعلى منّا،
للوصل إلى أوَّل الصفوف، عموما نحن نحتقر من يعتدي على دورنا".
بائع القهوة؛
الشاهد..!
أبرز الشخوص في
المعبر، هو بائع القهوة عبد الرحمن محمود أبو شعيرة، الذي يقطع المسافة بين مكان
سكنه في مخيم العزة إلى المعبر، كل يوم منذ 11 عامًا، وأصبح معروفًا من قبل العمّال
الذين يفضلون قهوته، وتعودوا على صوته وهو يتمشى بجانب مسارات دخولهم، وينادي بصوت
منغم "قهوة..قهوة" قالبا حرف القاف جيما مصرية، وحواسه مستنفرة اتجاههم،
فعندما يسمع صوت العملة المعدنية يضربها العامل على الحديد الفاصل بينه وبين عبد
الرحمن، يسرع لتعبئة كاسة من القهوة ويناولها للعامل، قائلاً: "الطرق على
الحديد هو كلمة السرّ بيني وبين العمّال".
يقول عبد الرحمن، بأنه
يصل إلى المعبر الساعة الثانية والنصف فجرًا، حاملاً دلائه وقهوته، التي يعمل على إعدادها
منذ الساعة الواحدة، حيث يجهز ما بين كيلو ونصف إلى اثنين كيلو من البن يوميًا.
ويحرص عبد الرحمن،
على انتخاب أنواع جيدة من البن، لتلبية رغبات العمّال، الذين ارتبط بهم وارتبطوا
به كما يقول، ويثقون به وبقهوته.
ويمنح عبد الرحمن كاسة
قهوة لأي عامل لا يتمكن من شرائها كما يقول، وبعض العمّال يحاسبونه أسبوعيا والبعض
الآخر شهريا، ولكن معظم العمّال يدفعون الشيقل ثمن كاسة القهوة فورًا، أو يؤجلون
ذلك لليوم التالي.
ويبقى عبد الرحمن على
المعبر حتى الثامنة صباحا، بعد أن تخف أزمة العمّال، فيعود إلى منزله للنوم
والراحة استعدادًا ليوم عمل ليلي جديد، قائلاً: "لقد أصبح نهاري ليلي، وليلي أصبح
نهاري، أنا عامل مثل العمّال أسعى وراء رزقي، وأرغب أيضًا بخدمة العمّال الذين
يستيقظون مبكرًا للحاق بعملهم، دون أن يتمكنوا من تناول فنجان قهوة في المنزل".
ويعتبر عبد الرحمن
شاهدًا على موت اثنين من العمّال بسبب التدافع، وموت ثالث قبل أشهر نتيجة جلطة أصابته
وهو على مدخل المعبر.
يقول عبد الرحمن وقد
ابتعد عن العمّال لإشعال نار لكي يتدفأ: "عادة تقع إصابات بين العمّال نتيجة
التدافع، وهناك من يُخلع كتفه، أو يكسر ضلعه أو يتضرر أي من أطرافه أو أجزاء جسمه،
ولكن أن يصل ذلك إلى حد الموت، فهو الأمر البشع جدًا".
ويضيف: "وأنا في
مكاني أسير جيئة وذهابا لتلبية طلبات العمّال، وشغفهم برشفات قهوة قبل الدخول إلى
مراحل أخرى من التفتيش والإرهاق، انتبهت على صراخ العمّال، بعد سقوط أحدهم على الأرض
والدوس عليه، فتم نقله إلى داخل المعبر، بعد سماح جنود الاحتلال بذلك، ثم اتصلوا
بالهلال الأحمر الفلسطيني، لنقله إلى بيت لحم، وحدث نفس الأمر مع العامل الثاني
الذي مات أيضًا بنفس الطريقة، لن أنسى ما حييت ما حدث مع العامليّن، وتأسيت
لحالهما ولحالنا، وأنا أرى القهر والإذلال والموت على هذا المعبر".
أمّا بالنسبة للعامل الثالث
الذي توفي، فيقول أبو شعيرة: "حدث ذلك قبل أربعة شهور، وبينما كنت أعمل على إمداد
العمّال بالقهوة، سمعت من يقول بأن أحدهم مات، فأسرعت إلى مدخل المعبر، فوجدت رجلاً،
تبين أنه من مخيم العروب وقد سقط، وبسرعة طلبنا الإسعاف، وشُخصت وفاته، بوفاة
طبيعية، في مكان غير طبيعي للموت".
وبينما كنت أتحدث مع
عبد الرحمن، كان العديد من الشبان يتسلقون القضبان الحديدية ويسيرون على الحواف،
ممسكين جيدًا حتى لا يسقطوا على العمّال المحشورين في المسارب.
قال أبو شعيرة:
"هؤلاء يحاولون كسب المزيد من الوقت، ولكن بعضهم لا يدركون مخاطر ما يفعلونه،
هناك الكثير من أمثالهم، وقعوا إلى الأسفل، وأصيبوا بكسور، وأصابوا غيرهم من العمّال".
الاحتلال يتقصد
رغم أن المنطقة التي
يقع فيها المعبر، هي ضمن حدود بلدية بيت لحم، إلّا أن قوات الاحتلال تتعامل معها
على أنها تابعة لبلدية القدس الاحتلالية، وكانت حكومة الاحتلال، صادرت بعد حرب
حزيران 1967، سبعة آلاف دونما من أراضي المنطقة التابعة لمدين بيت لحم، وبيت جالا،
وبيت ساحور، وضمتها لحدود بلدية القدس الاحتلالية، التي تفرض، في أحيان كثيرة
ضرائب على السكان، وتحرر الشرطة الإسرائيلية، في حملات منظمة، مخالفات للسائقين،
وتمنع حكومة الاحتلال أي وجود للشرطة الفلسطينية في الموقع، إلّا في شهر رمضان،
وبشكل محدود، عندما يتدفق على المعبر في أيام الجمع أعداد كبيرة من الناس، ويستغرق
المرور عبر المعبر نحو ساعة للمواطن، وتمتد طوابير المنتظرين إلى مسافات طويلة
خارج المعبر.
ورغم هذا الموقف من
حكومة الاحتلال، إلّا أنها لا تقدم أية خدمات، ولا تضطلع، مثلاً، بمهام التنظيف في
الموقع، حيث تتولى ذلك بلدية بيت لحم، وبشكل يومي.
مسؤول محلي يعالج
قضايا العمّال، ومن بينهم العمّال داخل الخط الأخضر، قال، بان السلطة الوطنية،
وعبر الارتباط تطرح دائمًا، مطالب بتقديم تسهيلات على معبر 300 إلّا أن سلطات الاحتلال
لا تستجيب، ويعتقد هذا المسؤول الذي لم يرغب بالكشف عن اسمه، بان هذه السلطات
تتعمد ما تفعله على المعبر من إذلال للعمّال، كجزءٍ من ممارساتها القمعية اتجاه الشعب
الفلسطيني.
معبر بيت لحم
عريضة ضد الضمان على
الحاجز العسكري
المتسلقون في معبر
بيت لحم