أهلين

"من عرف الله سار، ومن سار طار، ومن طار حار". عجيل المقدسي.

الجمعة، 27 نوفمبر 2020

العيسة يطلق سراح مجانين بيت لحم بعد قبلتها الأخيرة

إعداد: جميل عليان

في رواية جديدة، تناولت موضوعا قد يكون الأول في الأدب العربي الحديث، يؤرخ روائي فلسطيني بمهارة وبسرد أدبي يضع الحقائق في سياق بنيوي روائي مدهش لانهيار وطن المجانين في الأرض المقدسة، تزامنا مع وطن أناسه من العقلاء ، ولكنه يتقلص هو أيضا.

في روايته (مجانين بيت لحم)، استحضر كاتب الرواية أسامة العيسة، عبر أمواج تعلو وتهبط من الحقائق الدرامية التاريخ، والجغرافيا، والحكايات الغرائبية، عن قادة، وسياسيين، وأدباء، ومدعي نبوة، ولاعبين معروفين ومجهولين، في روايته الثالثة التي صدرت مؤخرا في العاصمة اللبنانية بيروت، لتشكل حلقة جديدة من مشروعه الروائي الذي يستلهم فيه الواقع الفلسطيني، ضمن فضاءات واقعية وتاريخية وغرائبية.

والرواية هي ثلاث محاولات لكتابة رواية، يقدمها الروائي، في محاولة للإلمام بعالم المجانين، الذي يقدمه على أنه غير منفصل عن عالم العقلاء، مستحضرا روح المجنون عُجيل المقدسي (توفي عام 406هـ)، الذي يستمع الناس إلى حكمه، وشطحاته الصوفية.

وكما يبدو أن روحه تناسخت في البطل الرئيس للرواية، إذا جاز الحديث عن بطولة في عالم مجنون، كهذا الذي يعصف بالأراضي المقدسة وأهلها منذ قرون.

وخلال المحاولات الثلاث، لكتابة رواية، هناك اعترافات من الروائي للقراء، من خشيته، بعدم النجاح، وذلك لجعل القارئ متيقظا، ومساهما في صناعة العمل. وفي نهاية العمل، يعترف الروائي، بأنه تجنب سرد حكايات بعض المجانين، خشية البطش من عالم العقلاء.

وكما هو ديدن الروائي في رواياته السابقة، تبدو الرواية في جانب مهم منها، رصداً للتغيرات التي عصفت بالمكان، وبعوامل محلية، وإقليمية ودولية. وفي رواياته السابقة ظهر الروائي يدافع بقوة عن أفكار الشهود على العصر الذي يحاكمه في رواياته بكل جرأة.

يقول العيسة: “الدفاع عن وطن المجانين المجازي، هو دفاع، عن الشذرات التي تبقت من الوطن الأكبر. عندما لا يجد المجانين وطنا في وطنهم، فإن هذا يعني أنه لا وطن أيضا للعقلاء”. والمجانين يصيغون سيرة المكان بكفاحهم، كما يظهر في الرواية، ولكنهم يكافؤون بانقضاض العقلاء عليهم.

“لقد حاولت ان أُقدم حكايتنا بدون أية بهارج، أو بطولات زائفة، أو اتهامات مرسلة، وهي مهمة ليست سهلة”، قال الروائي.

قدمت دار نوفل الرواية: “تبشيرٌ ألماني رائد، وطموح إمبراطورٍ مغامر، قدَحا شرارة الدهيشة، وطن مجانين فلسطين منذ الانتداب البريطاني. لاحقًا، سيتمّ الاعتداء على ذلك الحيّز، في ظروف سياسية جديدة، وضعت المجانين ووطنهم على المحكّ. تحكي 'مجانين بيت لحم’ عن وطن المجانين الفعلي، وناسه”. 

“هي ترمز إلى الوطن الذي يتآكل تحت وطأة التغيّرات السياسية التي تعصف به. تقتحم موضوعا يكاد يكون بِكرا في الأدب العربي الحديث، وتقدّم الفلسطينيين كما هم، بشرا، من دون نبرة خطابية ولا مناجاة غنائية. رواية جديدة ليس فقط في موضوعها، ولكن أيضا في اقتراحها شكلا يناسب المضمون”.

وقال الروائي ربعي المدهون عنها: “رواية تتخلى فيها شهرزاد عن دورها لسارد مسكون بالحكاية الشعبية والتراث، يقلب ألف كتاب وكتاب، باحثا عن كل ما هو مدهش ليقدم هذا العمل المختلف، عن شخصيات تنمو وتتطور في فضاء يتشكل من واقع متخيل وخيال واقعي”.

وتذهب الرواية إلى تفكيك مذهل لنسيج عالم يصغر مع مرور الوقت، مع ظهور أقوى للقوى السياسية العالمية، التي  كانت فاعلة في صلب الوضع الفلسطيني، لدى إقامة وطن المجانين.

يتساءل الروائي من هم المجانين، ومن هم العقلاء، في بلاد تُسرق فيه الأوطان الصغيرة والكبيرة؟

وقال الروائي: “اشتغلت في هذه الرواية على الشكل، لإيماني، بأنه لا يجب على الكاتب اأن يكتب روايته مرتين، والمقصود بنفس الشكل، وحاولت أن أجعل من القارئ متلقيا فاعلا، وليس سلبيا، بفتح حوار معه، وكشف بعض أسرار اللعبة الفنية. أظن بوجود علاقة جدلية بين الشكل والمضمون، في النهاية كل مضمون يختار شكله الذي يناسبه، وإذا لم يفعل، فإن بوادر الفشل ستلوح، من المهم أن نقدم رؤانا الأدبية في أشكال تناسبها”.

ووطن المجانين، هو الاسم ذاته للمصطلح الشعبي المتداول مستشفى المجانين، أو الاسم العلمي، مستشفى الأمراض العقلية، وهو واحد من مستشفيات قليلة  مشابهة أقيمت في بعض المدن العربية الرئيسة في بدايات القرن المنصرم. 

يقول العيسة: «العنوان يعود إلى وطن مجانين فلسطين، منذ أكثر من قرن، وهو المستشفى الوحيدة للأمراض النفسية في فلسطين التي كانت تستقبل المرضى من مختلف الأديان، في حين كانت هناك مستشفى صغيرة، في القدس الغربية، لا تقبل إلا مجانين اليهود».

ولا يبعد مكان المشفى عن مكان سكن الروائي، في مخيم الدهيشة، لذلك يبدو الروائي يعيش روايته كل يوم، أو يطل عليها من شرفة منزله على أطراف مخيم الدهيشة.

تقع هذه المستشفى في منطقة الدهيشة في مدينة بيت لحم، وبعد نحو نصف قرن من إنشائها، نشأ بالقرب منها مخيم الدهيشة للاجئين الذين شردوا من قراهم في مناطق القدس، وبيت لحم، والخليل، والهضاب المنخفضة، في مرحلة جنون جديدة تتعرض لها الأراضي المقدسة.

يقول العيسة: «ارتبط تأسيس المستشفى بتقاطعات علاقات الامبراطورية العثمانية مع قوة دولية مؤثرة، مثل ألمانيا في عهد الإمبراطور غليوم، الذي افتتح المبنى الذي شيد على قطعة أرض ضخمة، شهد المبنى على حربين عالميتين، وحروب إقليمية ومحلية، وكان، مثل وطن «العقلاء»، عرضة للتغيرات الدراماتيكية التي عصفت بالجميع. في ظروف سياسية جديدة، تقلص وطن العقلاء، بفعل الاستيطان والإجراءات الاحتلالية، ما أدى إلى تقليص وطن المجانين، بسبب زحف «العقلاء» نحوه. 

هل هناك أي رابط في الرواية بين البعدين الديني التاريخي والمجانين؟

يقول العيسة: «بالطبع، في الواقع إن معظم الأنبياء، والقادة الاستثنائيين، والقديسين، اتهموا في فترات تاريخية، بإصابتهم بمس من الجنون». قبل مجانين بيت لحم كتب العيسة روايته «المسكوبية»، التي روت بشجاعة مبنية على تجربة ذاتيه، مرارة ذلك المكان، وأيضا ارتبطت الروايتان ببيت لحم وأطرافها المقدسة بشكل ما.

يقول العيسة: «الرواية هي استكمال لمشروعي عن تقديم بيت لحم، كمكان روائي، وهو ما بدأته في (قبلة بيت لحم الأخيرة) تخبرنا المدونات التاريخية، عن نظرة كل مجتمع تجاه الجنون، لدينا تراث عربي زاخر يقدم الجنون بصورة غير تلك الموجودة لدى العامة في عصرنا». 

بالنسبة للعيسة يظهر الجنون في روايته الجديدة ككناية عن الاستتار، كما فهمه العرب، ويكون ذلك خشية أو خوفا من بطش ما.

«لذا قد لا يكون المثل السائر (خذوا الحكمة من أفواه المجانين) مجرد قول عابر (...)، المجانين لديهم قدرة دائما على إثارة الدهشة، دهشة العقلاء، وإن كان من غير المحبب بالنسبة لي الفصل بين عالمي المجانين والعقلاء، فهو عالم متداخل أكثر مما نتوقع، كما يمكن للقارئ أن يجد في روايتي». قال الروائي الذي كتب من قبل نص عن خاله المجنون الذي هو فصل من الرواية.

الراوي في (مجانين بيت لحم) اعتمد على أوراق تركها خاله المجنون الذي قضى انتحارا، والذي أنقذ الأوراق مجنون آخر، ويستنتج الروائي بأن الخال لا يمكن أن يكون مجنونا لأنه انتحر، والانتحار يحتاج إلى قرار. 

بيت لحم في فكر الروائي، وكما يراها أمام عينيه أيضا هي مدينة المجانين والأنبياء، مدينة السلام التي لم تحظ به، المدينة التي يقدسها الملايين، ولكنهم تركوها بلا قدسية تواجه مصائرها بنفسها.

« كم مرة هُدمت؟ وكم مرة سبيت نساؤها؟ كم نبي ومجنون طورد وقتل فيها؟» يتساءل الروائي؛ لذلك تختلط في الرواية الحقائق، بالغرائبي، بشخوص واقعية، عندما انكب العيسة على دراستها وجد أن سلوكها كما يقال يفوق بغرابته الواقع.

 وهو أيضا الذي إذا نظر إلى الدهيشة-بيت لحم، كمكان، وجده وكأنه رواية الدنيا، أنماط عمرانية من مختلف البلدان، سياسيون ورجال دين، ومجانين من مختلف القوميات والأديان والإثنيات، تمردات وثورات، خلال قرن من الزمن شهدت عصور: الإمبراطورية العثمانية، والبريطانية، ثم سلطة مصرية، فسلطة اردنية، فاحتلال إسرائيلي كولنيالي، وسلطة وطنية فلسطينية.

وهو يريد أن يقول: «لك أن تتخيل تأثير كل هذا على مكان صغير، دارت فيها وحوله المعارك، وسار فيه فاتحون، وغزاة، ودركيون، وصحافيون، وجواسيس، وعلماء آثار، أي وطن هذا هو وطن المجانين؟».

« وأيضا لنا أن نتساءل عن تأثيره على كل الذين مروا به، في الرواية نجد تأثيرا لا مراء فيه، يسميها الروائي (لوثة الدهيشة) التي أصابت أباطرة ورؤساء ومدعي نبوة»   

 

الأحد، 22 نوفمبر 2020

المسكوبية

رواية لاسامة العيسة تقع على متن ٢٠٣ من القطع المتوسط وهي من اصدارات الرقمية للنشر والتوزيع في طبعتها الثانية ٢٠١٩.

الرواية تتحدث عن سجن المسكوبية في القدس وما يتعرض له المعتقلين الفلسطينيين من عذابات بشتى الاشكال والالوان.

فالكتاب جاء بلغة روائية بسيطة وسلسة تختزن في ثناياتها نضالات الشعب الفلسطيني وتستعرض صور القهر والعذاب التي يواجهها الفلسطيني في المعتقل، فجاء الكتاب مصورا بالتفاصيل الدقيقة حجم الجحيم الذي يواجهه المعتقل الفلسطيني في اقبية التحقيق التي يحويها ذلك المعتقل المسكوبية والاشبه بمعتقلات النازية، والخالية من ابسط مقومات الاحتياجات الانسانية.

صور مؤلمة وموجعة تلك التي ينجح الكاتب في استعراضها وعرضها ضمن سطور النص باسلوب سردي متسق وسلس ومشوق، لكنه كثير الالم والوجع. ولا يفت الكاتب طيلة احداث الرواية عن تقديم الامل وبثه عبر اثير الرواية فتجده مثلا يتحدث عن اول شهداء هذا المعتقل، ثم يتحدث عن اشهر من دخل هذا المعتقل من القيادات الوطنية ومن النخب الثقافية، اضافة لحديثه عن تاريخ الشعراء واشهر القصائد والاغنيات الوطنية التي كتبت في السجون وفي سجن المسكوبية بالذات.

ولا يفوت الكاتب ان يستعرض كل تلك العذابات التي يواجهها المعتقل في معتقل المسكوبية، دون ان يفوته ايضا استعراضه لكثير من تفاصيل المكان في القدس، من خلال استحضاره لشخصيات وامكنة وازمنة واحداث شكلت بإجتماعها تاريخ المدينة المقدسة. فجائت الرواية رواية للمكان بقلم وقلب متخصص وباحث ومصور يتفنن برؤية زوايا المكان ويتقن معرفة كل بقعة فيه، تلك التفاصيل الصغيرة والاحداث الكبيرة التي يتشكل منها تاريخ القدس ويتشكل منها الامر الاكبر والاهم وهو الوعي والانتماء الفلسطيني، فمن الطبيعي في ابجديات الوطن ان يحب الانسان وطنه وهذا امر عادي، لكن الاهم ان يكون لديه انتماء وتجذر تجاه هذا الحب، وهذا لن يتم دون وعي بالمكان والزمان، وتفاصيله هذه تساعد في ادراك حجم الترابط والتجذر مع اي بقعة يرتبط بها.

ينجح الكاتب في التقاط صور عديدة للقدس لكن تبقى صورة النجاح الاهم تتمثل في قدرته على توظيفها في سياق النص، ورغم ان العديد من هذه الصور مألوفة ومعتادة وفي اغلبها تتعلق بالقدس وتاريخها، ويبدأ الكاتب بهذا السياق والتوظيف من بداية نصه، لا بل حتى من غلاف الكتاب وعنوانه(المسكوبية) فلا يترك لنا مجالا كثيرا للابتعاد عن سبب ذلك الاسم ومدلوله في تاريخ القدس. وحسنا فعل ذلك واجاد لان هذا الاسم المسكوبية اسم فاقع الدلالة والشهرة في فلسطين وفي القدس بالذات والاهم من ذلك كله انه معلم معروف ومكروه بشدة لدى المناضلين.

يستعرض الكاتب جزء كبير من تفاصيل القدس ومكوناتها من اهلها وناسها وسكانها كالغجر والنور وتاريخهم في القدس، اضافة الى استعراضه للعديد من الاماكن مثل باب العامود وحارة الشرف وحائط البراق ودرب الالام والكنائس ودروبها والنجمة الفضية المسروقة وحرب القرم وعلاقتها بذلك وارض المسكوبية وملكيتها وقصة اهدائها وغيرها الكثير، ولم يتوقف الامر عند هذا الحد وحسب، بل يعرج بنا الكاتب على تاريخ تلك البنايات(المقاطعة) في فلسطين من زمن الانتداب وحتى العثمانيين، فيبدأ بها من عند اريحا في توليفة لا تخلوا من مقاصده في بناء مداميك روايته اضافة الى اشارة سريعة منه الى خلفيته التنظيمية وانتمائه الحزبي.

وهذا كله بالاضافة الى قدرة الكاتب الكبيرة على توظيف الارث التاريخي والموروث الشعبي في فلسطين ضمن ثنايا البناء الروائي وبصورة شكلت اضافة نوعية للنصوص الادبية الفلسطينية واسهمت برفع قيمتها الوطنية والتعبوية. فنجد الكاتب قد تطرق الى التعريف بالاحتفالات الشعبية كعيد الفصح واعياد المواسم وشهر الخميس وغيرها.

ومن الممكن ان نقول ان هذه المعلومات من السهل جمعها والاطلاع عليها في اي مكان او ضمن اي كتاب او وثيقة لكن يبقى الاهم السياق التي جائت فيه تلك الشواهد والعلامات الفارقة، وهذا هو الفرق الذي نجح الكاتب في تقديمه في هذا الرواية وهذه احدى ميزات النص .

لا يتوانى الكاتب عن تقديم صور جديدة وغير مألوفة للقدس، كتناوله لمسألة المعتقلين الجنائيين من القدس وكيفية استعراضه وتناوله لقصصهم، ويقدم صورة كثيفة لهم وينجح بتسليط الضوء على من يحتكرون جزء كبير من شوارع القدس وحكاياه البعيدة النظر عنا وهو ما اسماه الكاتب العالم السفلي للقدس، وينجح الكاتب بطرح الموضوع من خلال حوار في المعتقل يدور بين الراوي وابو العز على ظهر الصفحات ٩٧-٩٩، ويتم توليد الحوار بصورة مشوقة فيبقى مستمرا بين الراوي وابو العز لكنه يدخل حيزا اخر هذه المرة؛ اذ يذهب الحوار الى اقصى غايته مع شخصية جمال وشخصية ابو العلم فيدور الحديث على لسانهما عن القدس وواقعها وظروف حرب ١٩٦٧ وسقوط القدس، حيث ينجح الحوار عبر الصفحات١٠٠-١١٨ بإلتقاط صور عدة لواقع القدس آنذاك غداة النكسة.

بعد ان ينجح الكاتب بتقديم عناصر المكان التي يريد ويربط الاحداث ببعضها ويوظفها طواعية بالسياق الذي يريد، لا يفوته ان يحدد زمن الرواية بدقة وهو 29/3/1982 وفي فترة اعتقال اقل من شهر ينجح الكاتب بادارة حوارات شتى غاية في الاهمية وتتفق مع القيم السامية والاهداف النبيلة التي يحملها الكاتب، كان اهمها ذلك الحوار مع احد قيادات فتح في المعتقل اضافة الى حواره مع ابناء القدس من رواد العالم السفلي وكيفية خروجه اليوم من قضية جنائية ليعود للسجن ثاني يوم مباشرة، لكن هذه المرة على خلفية سياسية وعلى اثر الحدث الابرز في الرواية اقتحام الاقصى وفتح النار على المصلين من قبل الجندي الاسرائيلي الان هاري غولدمان وما تبعه في تلك الفترة من الاحداث والاحتجاجات، وشملت فترة الاعتقال ايضا وهي الفترة الزمنية للرواية الظروف والايام السابقة على اجتياح بيروت.

الأحداث الواردة في الرواية شكلت قطعة فنية حقيقية من أدب السجون، ولم يكن بالامكان تقديمها بهذا الاتقان وبهذه الفنية العالية لو لم تكن تحتوي تلك الروح المناضلة الكامنة في احشائها، وهذا ما كان له ليتم لولا اننا امام سيرة حية وليست متخيلة لكاتب النص( اللفتاوي ابن مخيم الدهيشة)، بمعنى اننا قد نجد نصوص كثيرة تتعلق بادب السجون وتتحدث في سياقه، إلا انها فاقدة لتلك الروح التي تستطيع ان تعتقلك وتداهم منزلك وتزج بك في البوسطة وتعرضك لزنازين محددة بأهدافها وانواعها كالزنزانة رقم ١٢ في المسكوبية وما تتعرض له من شتى اصناف التعذيب والتي قد لا يكون اسوأها الضرب والشبح ووضع كيس الخيش ذوي الروائح الشنيعة على راسك وما يتبعه من سيل الضربات والتهيئات.

عندما ينجح الكاتب في التقاط تلك الصور لا يفوته ان يزرع الامل رغم الالم، فلا يعجز عن ابتداع عديد الصور لهذا الامل، والتي قد يكون اجملها: قدرة المعتقل على مقاومة اساليب السجان بكسر الارادة والتطويع والاسترسال في الحديث مع المحقق وغيرها الكثير، لكن يبقى ابتداع وسائل التواصل مع بقية المعتقلين من خلال لغة العيون والدق على الجدران هي الاجمل.

صاحب النص والذي اراه هو نفسه الكاتب، صاحب تجربة وطنية ناصعة وابن هذه الارض المفعم بحبها وبتفاصيلها حد الجنون، اسامة العيسة كاتب مجبول بالزمان مرهون للمكان، وقد نجح العيسة بتقديم المكان والزمان الفلسطينيين سرديا وهذا مشروع يستحق التقدير والثناء، وهذا دليل قاطع على اننا امام كاتب فذ ومبدع يدرك تماما طبيعة وابعاد الصراع مع الاحتلال الاسرائيلي.

نحن امام نص يدرك كاتبه تماما ان صراعنا مع المحتل في احد اوجهه الرئيسية صراع على الرواية ونقيضها، فتأكيد روايتنا يعني فيما يعني دحض رواية الآخر والقائها في مزابل التاريخ، هذا اذا وجدت لها متسعا هناك، وهذا هو جوهر الفكرة واساس المعركة بيننا وبين اصحاب الخرافة المتسللين خلسة الى سطور التاريخ.

 

الخميس، 19 نوفمبر 2020

لا زغاريد في القُدْس


 


عندما جلس ابن مدينة الناصرة ميشيل صبّاغ، على كرسي بطريركية القُدْس، كان الجلوس حدثًا، أوقف أعلا الفخر وقوفًا، ومدعاة للاحتفال الوطني، فهو أوَّل بطريرك عربي يجلس على الكرسي اللاتيني منذ تأسيسها الحديث في القُدْس (1847م). في بداية عام 1988م، قابل صبّاغ بابا الفاتيكان، وحضر سيامته سفراء عرب، ووفد كبير من الناصرة وفلسطين، ضم أكثر من مئة شخص على رأسهم  توفيق زيّاد، رئيس بلدية المدينة الشيوعيّ.

لم يكن الأمر يتعلق فقط بأوَّل بطريرك عربي، ولكن أيضًا بلحظة الانتفاضة الكبرى، ولم يكن أقدر من الباحث والمفكر والمترجم المجاز في الثقافة الإسلامية من السوربون (في الشعر الأموي وطبقات ابن سعد)، من التقاطها، وفي ذهنه تراث لاهوت التحرير في أميركا اللاتينية، فمدّ ذراع كرسيه إلى المنتفضين.

بعد تنحية صبّاغ بحكم قوانين السن الفاتيكانية، حلَّ محله، كما هو متوقع، بطريرك عربي آخر، ولكن من بادية عبر الأردن، وعندما نُحي هو الآخر، بعد كرور سنوات، كُشف عن جبل جليد ذائب، وديون بقيمة 100 مليون دولار.

هذه المرة، لم يعين الفاتيكان بطريركيًا، وإنما أوكل لحارس الأراضي المقدسة المنتهية حراسته، وبعد وصوله إلى ايطاليا، متقاعدا، مهمة تدبير الكرسي البطريركي.

امتلأ المُدَبِّر، بالشعور الإنجيلي الخلاصي، فالرّبّ وحده، من دبر عودته مجددًا إلى الأراضي المقدسة، ولكن كيف سيتدبر الديون؟ طرح مشروع بيع أراضي للرعية الفلسطينية في الناصرة، فانتفضت الرعية، دون أن يقف أحد من الوطنجية معها. وما زالت منتفضة.

لا يمكن أن يظل المُدَبِّر مدبرًا، فسامه البابا، بطريركًا، منهيًا ربيع البطريركية العربيّ، الذي يدأ صاخبًا صبّاحا مع صبّاح، إلى شتاءٍ مع خليفته.

الصوت الوحيد، الذي تناهى إلى مسامعي، متسائلاً عن مصير عروبة الكرسي البطريركي، جوبه بنقدٍ، من رعية البطريركية، في إعلان فاضح للنكوص العروبي.

لم تتغير مشاعر الرعية الوطنية، ولكنّها فضلت أجنبيًا على أي عربي آخر. ما الذي تغيّر؟

عندما وصل خبر تعيين صبّاغ بطريركًا، أطلقت والدته زغرودة، تردد رجع صداها فلسطينيًا وعربيًا وعالميًا. لا نعرف إذا كانت والدة البطريرك الجديد، زغردت، مأخوذة بتراث متوسطي أم لا؟ ولكن في القُدْس التي احتفت بالبطريرك الجديد، لم يزغرد أحد.

فلسطين تتغير ليس بالصدمة القاصمة، كما حدث في أمصار أخرى، وإنما بصدمات متتابعة.

قبل أوسلو كانت فلسطين "مشروع" و"مشاريع"، وبعدها أصبحت "مشاريع".

 

الأحد، 15 نوفمبر 2020

مجانين بيت لحم، بالفرنسية..!


 


صدرت في العاصمة الفرنسية باريس، ترجمة فرنسية لرواية مجانين بيت لحم، للكاتب الفلسطيني أسامة العيسة عن دار نشر Belleville، التي تأسست عام 2015م، وقدت لقراء الفرنسية مجموعة من العناوين لكتّاب من الشرق الأوسط والبلقان ومناطق أخرى.

الترجمة الفرنسية بتوقيع الكاتب والمترجم فرانسوا زبّال، وهو شخصية أدبية معروفة، وناشطة في التواصل بين الثقافتين العربية والفرنسية، وله مؤلفات، وترجمات عديدة.

صدرت الرواية بالعربية، عن دار هاشيت انطوان في بيروت، وحازت في عام 2015م، جائزة الشيخ زايد للكتاب في أبو ظبي.

تحاول الرواية تقدم الفلسطينيين، من خلال حكايات متداخلة، هزلية وعميقة ولاذعة ومرحة، كبشر، بدون تحيزات مسبقة، أو مواقف نمطية.

وقال العيسة، معقبا على صدور الترجمة الفرنسية لروايته: "يعلب الأدب دورا مهما، في تجسير المسافات، وتقديم الرؤى، خصوصا في وقت تكثير فيه غيوم التطرف، والعنصرية، وترسيخ الأفكار المسبقة عن الآخر"، مشيدا بالجهد الذي بذله زبّال في الترجمة.

منذ صدورها، حازت الرواية على تقريظ واسع في الصحافة العربية، التي قدم فيها الكاتب، مقترحا أراده جديدا في الشكل والمضمون، من خلال استخدامه لمستشفى الأمراض النفسية في بيت لحم، وطن مجانين فلسطين الفعلي، كرمز لجنون التاريخ والجغرافيا في هذه البقعة من العالم.

والترجمة الفرنسية للرواية، هي الثانية بعد ترجمة الرواية إلى اللغة الأوكرانية، التي أُطلقت في معرض فرانكفورت للكتاب في دورته العام الماضي.

الخميس، 12 نوفمبر 2020

"وكأنّ لا حب في ارطاس"


صورة المرأة في رواية جسر على نهر الأردن

دراسة للدكتورة هوازن عثمان علي القاضي

تنوعت صور المرأة في الرواية ما بين: جدة حكيمة واعية، وأم منتحرة مهزومة، وابنة مستسلمة لقدرها، ولاجئة متكيفة مع حياتها القاسية، ونازحة هي مشروع مقاومة. وتوزَّعت الشخصيات النسائية في الرواية ما بين نمطية وغير نامية (الجدة، والأم، والزوجة، واللاجئة)، وبين النامية التي تمثلها شخصية (النازحة). مروراً بما حلَّ بها بعد النكبة والنكسة، وتصوير حالها وما آلت إليه في مخيمات اللجوء والنزوح، ومحاولاتها التأقلم مع الوضع الراهن، والاندماج في الحياة المجتمعية الجديدة، التي تفرضها عليها المرحلة. لم يهتم الروائي بإطلاعنا على ماضي الشخصية النسائية، ولم يكشف لنا عن عوالمها الخفية، وحيواتها المستترة، وعواطفها المكبوتة، مكتفياً بوصف تصرفاتها، وأقوالها، وما يعتمل في داخلها لحظة الحدث. مستخدماً في رسمها المقياسين: النوعي، والكمي. واستعان -كذلك- بالأسلوبين: التقريري، والتصويري. كما قدَّمت الرواية صورة للمرأة المستشرقة الأوروبية (حليمة، والست لويزة)، المتقدمة، المتعلمة، التي جاءت لإنجاز العديد من الدراسات، التي عكفت عليها سنوات طويلة؛ لتُسجِّل عادات المجتمع الفلسطيني وتقاليده.. مقدماً إياها شخصية نامية متفوقة.

**

شكر كبير للدكتورة القاضي، على هذا الجهد الكبير، الدراسة كاملة:

https://www.refaad.com/Files/JALS/JALLS-2-3-4.pdf