أهلين

"من عرف الله سار، ومن سار طار، ومن طار حار". عجيل المقدسي.

الأربعاء، 27 نوفمبر 2019

مجنون المَحْرُمة..!



كنّا نعلم، بأننا، ما إن نقطع الطريق، من المخيم إلى بيت لحم، عبر دير المجانين، حتى نجده يعتلي شجرة سرو كبيرة، بل أننا ونحن نسرع، خشية من بعض المجانين الذي يناصبوننا العداء، لأسبابٍ لا نعرفها، نمني أنفسنا، بأننا أخيرًا سنفرح بوجوده، كما يحدث دائما.
اسمه جاسم، بلحية لم يقصها، على الأغلب قط، يرتدي كاب عسكري، وقميص كاكي. عرفنا منه بأنّه من بلد اسمها الناصرية في العراق، رمته ظروفه في الدير، وحالت ظروف البلاد، والحرب، دون عودته التي لم يكن يريدها بشكل ملّح، وقطعت أخباره عن أهله، الّذين، لم تكن لديهم رغبة ملحة، في عودته إلى دياره، وحرم من تلك الزيارات النادرة والمتباعدة من واحدٍ من الأهل، قد يتذكر بأنَّ له قريبًا في دير المجانين في فلسطين، التي تقضم، وتقسّم، وتحتل، وأخبارها التي لا تسر تصل إلى الناصرية.
علمنا من أهلنا، بأنّ جاسم وخمسة من المجانين، شاركوا في المجهود الحربي، عندما استعان بهم جنود الجيش النظامي، الّذين كانوا يطلقون قنابل مدفعهم من مغر مجاورة لدير المجانين، باتجاه عدو لا يظهر، خلال حرب الأيّام الستة، ورغم جنونهم اكتشف المجانين الستة، بأنَّ القنابل لم تكن محشوة إلا بخرق بالية، وعندما ظهر العدو أخيرًا، وقصفت طائرته الموقع، مات خمسة مجانين، وهرب جاسم، عائدا إلى ديره، غانما ملابسه العسكرية.
يسرع أحدنا، من أصحاب البصلات المحروقة، إلى الشجرة، وينظر إلى الأعلى، ويطمئننا بإشارة من رأسه، بأنَّ صاحبنا جاسم على شجرته، وكأنّه لا يريد أن ينزل منها أبدًا.
عندما نتجمع تحت الشجرة، ننظر إليه، وكما تركناه في المرّة الماضية، نراه يدخن، وينفث الدخان نحونا إلى الأسفل، وفي يده الأخرى، المَحْرُمة العتيدة، التي لا تفارقه، يمسح بها فمه، ويده، وأنفه، وجبهته، ويربطها على جبينه. وأحيانا نسمعه يخاطبه: "أنتِ الوحيدة، التي تغطي عوراتنا".
نسأله:
-كيفك يا جاسم.
*أحسن منكم.
نضحك، ونحن ننتظر لعبته، فيرمي المَحْرُمة نحونا، طالبًا منا إعادتها.
يتقدم أكثرنا حماسة للعبة، فيتناول المَحْرُمة عن الأرض، ويرميها إلى الأعلى، وكما نعلم ويعلم، فإنّها لا تصله، وكيف يمكن أن تصله، والهواء غير قادر على حملها، والجاذبية لها بالمرصاد.
بعد عدة محاولات وتشجيع من قبل جاسم، نعرف بأنّه سيقول ما سيقوله دائمًا:
*هل أنتم مجانين؟ ليس هكذا تُرمى المَحْرُمة في الهواء، حتى تصلني.
-وكيف يا جاسم؟
*اربطوها بصرارة، واقذفوها.
نربط طرف المَحْرُمة بصرارة، ونرميها نحو جاسم، الذي يتجنب الإمساك بها، حتى يطيل أمد اللعبة، ولغايات أخرى، فيطلب مثلاً، أن نجرّب ربطها بعدة سجائر، نكون اشتريناها مسبقًا، ولا نعرف كيف، عندما نفعل ذلك، ونرمي المَحْرُمة، تصل بسجائرها إليه، فيحرّر السجائر التي تصبح ملكه، ويعيد رمي المَحْرُمة، ولا يهتم كثيرًا بإمساكها مرّة أخرى عندما نثبت صرارة بطرفها، ونكرر رميها.
عندما ينهي جاسم، تدخين سجائرنا القليلة، التي اشتريناها من حرّ قروشنا القليلة، يبدي اهتمامًا من جديد بلعبة المَحْرُمة، وأخيرًا، وبعد جد وهزل، تصبح المَحْرُمة بيده، ونكون قد زهقنا من جاسم ومحرمته، فنكمل طريقنا إلى بيت لحم، ونحن نسمع كلماته، تردد خلفنا، عن المَحْرُمة والعورات.



الثلاثاء، 26 نوفمبر 2019

عن الكنعانية..!



اقتحمت قوات الاحتلال، يوم أمس قرية بتير، جنوب القدس، المدرجة على قائمة التراث العالمي التابعة لليونسكو، وهدمت مقهى في خربة اليهود في القرية.
يسمي النَّاس الخربة، خربة اليهود، وهو أمر عادي في فلسطين، ففيها مثلاً قصر اليهود، والحجر اليهودي، وقرية اليهودية (التي ستغير اسمها إلى العباسية استجابة لتحديات الغزوة الصهيونية)، ولكن ذلك لم ينجيها من التدمير والتهجير.
قبل سنوات، وصلت الخربة، لتغطية حفريات غير شرعية لسلطة آثار دولة الاحتلال فيها، وحينها قال لي المشرف على الحفريات، بكل ثقة بأنهم يسمونها خربة بيتار.
التفكير بتطور الاسم القديم بيتار إلى بتير، هو ضرب من الخيانة، فيأتي من يقدم تفسيرًا لاسم بتير، باعتباره بيت الطير. عملية نموذجية، لمراكمة رموز فلسطينية، تستجيب للهوية الفلسطينية-العربية.
لاحظت أنَّ البعض كتب أمس، بان الاقتحام استهدف خربة الكنعانية. الأمر واضح هنا، في مواجهة إجراء لاحتلال يحمل الصبغة اليهودية، فإنَّ الرد الوطني عليه، بتزييف اسم الخربة لتصبح كنعانية.
لماذا عندما يُقدم مصريون أنفسهم باعتبارهم فراعنة، يواجهون تهمًا أقلها بأنهم ضد العروبة؟ ولماذا عندما يُقدم لبنانيون أنفسهم بأنهم فينيقيون، يواجهون تهمًا أقلها الانعزالية؟ والأمر نفسه ينطبق على مبادرات لمارونيين فلسطينيين لإعادة تبني الهوية الآرامية. اتهمهم البعض بالخيانة.
أمّا بالنسبة للفلسطينيين، فإن الكنعانية، هي التعبير الأصفى عن الهوية..! ومع ذلك لم نجد في التعبيرات الكفاحية عن الهوية الفلسطينية المعاصرة من يقدم نفسه، مثلاً باسم حركة تحرير كنعان، أو الجبهة الشعبية لتحرير كنعان.
يقدم الإسرائيليون، العصور البرونزية في فلسطين، بدون أي سند علمي، بأنها العصور الكنعانية، فيما العصور الحديدية، باعتبارها العصور الإسرائيلية، وهو ما يواجهه علماء الآثار المتحررين من سيطرة الكتاب المقدس.
تبني هوية كنعانية من قبل الفلسطينيين، هو في الواقع تبني لمفاهيم إسرائيلية-صهيونية. لم تشهد فلسطين، في تاريخها، فهمًا اثنيًا-قوميًا للهوية، فهي بلد متعدد الثقافات، وستظل كذلك، فلم تكن عربية منذ فجر التاريخ، وليس شرطًا أن تظل كذلك حتى نهاية التاريخ، والأمر ينطبق على المصطلح الشعبوي (الكنعانية)، ما نعرفه عن هذه الفترة، هو في الواقع، ما جاء به أساسًا العهد القديم، وكما نعرف الآن، أكثر من أي وقت مضى، بأنه ليس كتابًا في التاريخ.
ما المزعج في الهوية الفلسطينية، لاستبدالها بهوية طوباوية، لا أساس لها؟
خربة اليهود في بتير، اسمها الفلسطيني خربة اليهود، ووصفها بالخربة الكنعانية، لمواجهة يهود جدد، هو استجابة لمفاهيمهم عن تاريخ هذه البلاد.
يشكك الآثاريون النقديون في إمكانية تحديد عرق واحد في الفترتين البرونزية والحديدية، أو لغة واحدة، وحتى ثقافة واحدة.
في عرض إبداعي لمؤسسة إبداع، سيبدأ جولته العالمية في النمسا، يحاكي كفاح الشعب الفلسطيني، خلال القرن العشرين، الذي تبلورت فيه أكثر من أي وقت مضى الهوية الفلسطينية كما نعرفها الآن، يسميه مبدعو العمل كنعان، استعارة من العهد القديم، ويقدمونه تحت شعار (ستبقى فلسطين كنعانية إلى الأبد).
لماذا كنعانية؟ وليست هلنستية، أو امورية، أو بيزنطية، أو عربية؟ ولماذا إلى الأبد؟
الخبر غير السار، للفلسطينيين والإسرائيليين، الذين يؤبدون شعاراتهم، بأنَّ الأبد لا يعمل موظفًا لدى أي منهم. الهويات في الواقع، لا تورث ولكنها تُبنى، وهي تفعل ذلك، تُخترع وتعيد إنتاج رموزها. الهويات ليست معلبات مجمدة تحفظ في البرادات.


الأحد، 24 نوفمبر 2019

القدس المزيفة في التاريخ..!



ما علاقة رجل الدين بالتاريخ؟ هذا سؤال ربما لن تجيب عليه قناة الجزيرة الانجليزية.
في برنامج عن الفتوحات الإسلامية لبلاد الشام، بثته القناة تحدث الشيخ عكرمة من القدس، عن كيفية قدوم الخليفة عمر من الجزيرة العربية، مع خادمٍ، إلى القدس يتناوبان ركوب جمل وحيد. يعرف الشيخ اسم الخادم، ويعرف أيضًا أنه لدى وصولهما إلى أسوار القدس، كان الخادم هو الذي يركب الجمل، أمَّا الخليفة فهو الذي يمشي.
كيف عرف هذه التفاصيل؟ ليس مهمًا. ولكنه، على الأرجح لا يعرف كيف تدبرا طعامهما، خلال المسافة الطويلة، ومن أي الينابيع شربا؟ لماذا لم يكن لديهما، مثلاً، جملاً آخر ليحمل الطعام والماء؟
الشيخ عكرمة نفسه، عندما يتنقل في القدس، يفعل ذلك محاطا بمجموعة من الأشخاص.
نفهم من المراجع الإسلامية المتأخرة عن فتح القدس، والمصادر البيزنطية، أن المدينة خضعت لحصار قاس، وفي عظات بطريرك المدينة صفرونيوس الأخيرة، مرّ الشكوى من وضع أهالي المدينة، الذين عانوا من الجوع، والحصار، والانتحار، وغير ذلك.
كيف يمكن للخليفة وهو قائد لإمبراطورية تشرق عليها الشمس، أن يأتي بمفرده مع خادمه، قاطعًا الفيافي؟ ألم يخشى من البدو، وقطاع الطرق، وانتقام الإمبراطوريتين الفارسية والبيزنطية؟
إذا جاء الخليفة إلى القدس، فإنه لا بد أن أنى بعربات عسكرية لا تقل عن تلك التي لدى أعدائه، مصحوبة بتقنيين قادرين على إصلاح أي خلل بها (شبيه بسلاح الهندسة)، وبمرافقة سكرتارية، ورجال بريد، ومقدمة ومؤخرة، وأدلاء، وقصاصي أثر، وعسس يكشفون الطرق، ويقدمون تقاريرهم الفورية عمّا يجري.
تصوير الخليفة الأتي من الجزيرة العربية إلى القدس، بالصورة الساذجة التي قدمها الشيخ، وكأنه مجرد رجل بدوي غير واعٍ لدوره في إنشاء إمبراطورية جديدة في الشرق، هي إسهام في تزييف تاريخ القدس.
هل أتى الخليفة عمر إلى القدس فعلاً؟
كم مرة أتى؟
الآثار المتعلقة بالخليفة عمر في القدس، معدومة، فالمسجد الأقصى الذي بناه على أنقاض الهيكل حسب الروايات الإسلامية، ليس له وجود، ومسجد عمر الحالي المنسوب إليه أنه بناه بالقرب من كنيسة القيامة، هو في الواقع مسجد أيوبي. وخلافا للرسالة الرمزية الوحدوية التي يمكن أن تستنبط من إنشائه، فان الأوقاف تمنع غير المصلين المسلمين من الدخول إليه,
إذا بنى الخليفة عمر مسجدًا بحوار كنيسة القيامة، فعلى الأرجح ليس في مكان مسجد عمر الحالي، لأن طبيعة الكنيسة كانت مختلفة عن واقعها القائم، الذي وضع الصليبيون عليه بصمتهم الكبيرة.
يمكن اقتراح موقع، للمسجد المفترض، وهو بالطبع غير المكان الحالي.
كيف يمكن أن ننقي تاريخنا من الخراريف؟ كيف يمكن أن نكتب تاريخًا فلسطينيًا أقرب إلى الحقيقة التي ستظل نسبية؟
من المؤسف أن تساهم وسائل الإعلام المتطورة تقنيا كالقنوات الفضائية في هذا التزييف، بدلاً من الاضطلاع بطور تنويري.

السبت، 23 نوفمبر 2019

مجنون الصلاة..!






كان رئيف، مجنونًا رسميّاً، مقيمًا في الدير بشكلٍ دائم، ولكنّه لم يشأ إسقاط فرض الصلاة عنه، ولم يكن ممتنًا للمكرمة السماوية التي أعفته وغيره من المجانين من مشاق العبادات. أراد، يحدوه حسّ عال بالمساواة، والعدالة، أن يكون المجانين مثل العقلاء، لا فرق بينهما إلّا بالتقوى، يقدّسون اسمه، في الأرض، كما في السماء، لا يعلو أحدٌ على أحدٍ.
لم يكن رئيف ليصلي أمام زملائه المجانين، الغاضبين، من توريطه لهم في أمورٍ، اعتبروها حقا مكتسبًا، في أن لا يكونوا مثل العقلاء، بإسقاط الفروض عنهم، وهو ما جعلهم يشعرون بالتميّز، عن أمثالهم من العقلاء، كالأطباء والممرضين وعمال الصيانة والطباخين والحراس وأمناء المخازن والبستانيين وغيرهم، الذين يحرصون على أداء الصلوات في مواعيدها، وبشكلٍ مبالغٍ به، في معظم الأحيان، كالإطالة في الصلاة وقبل ذلك في الوضوء، والذهاب إلى الحمامات، وإن أدى ذلك إلى تأخير واجباتهم العملية تجاه المجانين.
يرى المجانين، المصلين، وهم يحملون الأباريق البلاستيكية، التي منحها لهم أبو اسكندر صاحب مصنع البلاستيك، وهم يتمخطرون بتؤدة إلى دورات المياه، تحضيرًا للصلاة، ويعلمون أن هذه الأباريق هي جزء من الرشى التي يمنحها أبو اسكندر للمصلين، شكرًا لهم، لحرصهم على توفير عمالة رخيصة له من المجانين، الذين يتقاضون رواتبهم الهزيلة، على شكل سجائر من النوع الرخيص، ولكنّها بالنسبة لهم كافية لتحفيز جين الجنون وإسعاده.
لم تسجل إلَّا حالات تذمر قليلة من المجانين، تجاه سلوك العقلاء، الّذي بدا وكأنَّ صلاتهم ليست إجراءً عمليًا وامتنانًا للسماء، وإنما طقوسًا، أهم ما فيها أنها تأخذ وقتًا، وتجعلهم يسترخون.
ينتحي رئيف مكانًا قصيًا بين أشجار الصنوبر الضخمة التي زرعت قبل أكثر من قرن، لاستقبال القيصر الألماني الّذي جاء فاتحا وممولاً لميتم الأيتام، قبل أن يحوّله الإنجليز، إلى ديرٍ للمجانين.
يعرف أولاد حارة الدير، مواعيد صلوات رئيف مثله تمامًا، فيتسلقون السور المرتفع، ويطلّون عليه، فقط ليضاحكونه، ويسألونه: لماذا لا يتجه بصلاته، مثلما يفعل العقلاء، ناحية الكعبة، فيجيبهم، الجواب الخالد، بعد أن ينهي صلاته، ويجلس على سجادته المهترئة، التي سرقها أحد الأولاد من منزله، وقدمهت باسم الأولاد إلى رئيف، بأنَّ كل الجهات، جهات الله، فكيف يمكن للإله أن يفضل جهة، من جهاته، على الأخرى؟
كبر الأولاد، وهم يتندرون دائمًا بنوادر رئيف ورفاقه، إلَّا أنَّ واحدًا منهم، وقد أصبح يؤذن في المسجد الّذي بُني في الحارة، من أموال تاجر خضار، في السوق المركزية، التي بناها رئيس بلدية كاره للمجانين، على أرض سلخها من الدير، اعتقد أن من مهام وظيفته، مراقبة الطرق الصحيحة للصلاة.
ابتدأ الولد الّذي أصبح شيخًا، وعاد من رحلاته الكثيرة إلى العمرة والحج، بأقراصٍ، تبين الطرق الصحيحة للحج، وهاله أنّه اكتشف خلال لقائه بجماعات دينية هناك تعلم الدين الصحيح، أنَّ الجميع في فلسطين لا يصلّون بالطريقة الصحيحة، وأنَّ عليهم، أنّ يغيّروا طريقة الوقوف والانحناء والركوع والسجود، علَّ الله، يغفر لهم، وإن كان ذلك غير مؤكد.
لم يهتم كثيرون بالولد الّذي أصبح شيخًا، ولا بأقراصه التي كان يوزعها كهدايا عودته من الديار الحجازية، فتذكّر رئيف، فذهب كما كان يفعل وهو طفل، وتسلق السور، ولكن هذه المرة بصعوبة، بسبب جلبابه الأبيض، غير المناسب لولدنات الطفولة، وعندما رأى رئيف، يفرش السجادة ذاتها، ويتجه عكس القبلة ليصلّي، صرخ عليه:
*أيها المضل، ألا تعرف كيف يصلّي المسلمون، لم يعاقبنا الله، إلَّا بسبب أمثالك؟
لم يلتفت رئيف للصارخ، وهناك احتمال أنّه عرفه وميّزه من صوته، وأجاب وهو يستعد للصلاة، مستظلاً بظلال الصنوبر:
-أنا مجنون أُصلّي بعكس العقلاء، وعندما يعاقبني الله، ويمنّ عليَّ بعقلٍ مثل عقولكم، سأصلّي مثلكم..!
لم تعجب إجابة رئيف، الولد الّذي نسي ولدنته القديمة، فاستمر بالصراخ. انحنى رئيف دون أن ينظر إليه، والتقط صرارة عن الأرض، وطيّرها، بعزمه، تجاه الصوت المزعج، وعاد لصلاته.


الخميس، 21 نوفمبر 2019

سفينة كنيسة المهد..!







































































خلال تحضيره لمعرضه (بيت لحم: من البصر إلى البصيرة) اختبر المصور الياس حلبي العديد من معارفه، عندما كان يريهم على شاشة الكاميرا، صورا لأماكن في محافظة بيت لحم، جهد لالتقاطها بشكل مختلف، ويطلب منهم معرفتها، ولم ينجح كثيرون في الاختبار، وهو ما كان يطمئن حلبي بأنه فعلاً يقدم رؤية جديدة لبيت لحم.
افتتح المعرض في جاليري باب الدير، احتفالاً بمدينة بيت لحم التي ستكون عاصمة الثقافة العربية لعام 2020، مسلطا الضوء عليها من زاوية جديدة: "لتقدير الأماكن والأشخاص الذين أصبحوا جزءًا كبيرًا ليس فقط من المدينة بل أيضًا من هويتها"-كما ذكر حلبي.
وأضاف: "حاولت أن أعكس في لوحاتي التصويرية، الإرث الثقافي والاجتماعي الغني لمدينة بيت لحم".
يتوقف جمهور المعرض أمام الصورة الرئيسة فيه، والتي تمثل سقف كنيسة المهد، كما لم يظهر من قبل، يعلق يوسف الشرقاوي: "تبدو كالسفينة"، ويقول الناقد الفني جورج الأعمى: "لم يكن لتظهر بهذه الصورة بدون الترميم الذي خضعت له الكنيسة، وهو ما يظهر في السقف والجداريات".
فكرة السفينة-الكنيسة، تلقى صدى عند جمهور المعرض، لتعبيرها الرمزي، عن واقع المدينة وناسها الذين يقاومون مغريات الهجرة، والحصار الذي تخضع له مدينتهم.
جاليري باب الدير، الذي يقع قريبًا من كنيسة المهد، رأى في الربط بين المعرض ومناسبة بيت لحم عاصمة للثقافة العربية، أمرًا هاما: "إن اختيار بيت لحم عاصمة للثقافة العربية تأكيد على هويتها وأصالتها وجعلها منبرًا ثقافيًا ودينيًا للجميع، بيت لحم التي تحتضن بين أروقتها وأزقتها قصص الأجداد التي نقشت في زخارف الجدران والأبنية". 
وأضاف الجاليري في تقديمه للمعرض: "استخدم حلبي أسلوب التوثيق الاجتماعي وكانت الكاميرا هي الأداة التي استخدمها لإلقاء الضوء بأسلوب مباشر وواقعي بسيط، ليمثل أماكن وأشخاص ومواضيع ومشاهد للمنطقة والحياة اليومية فيها. ولتوثيق وإعادة سرد إرث المدينة وهويتها مرورًا بجمال طبيعتها ومعمارها وشموخ كنائسها وأديرتها وجوامعها، وصولاً إلى أفراد أراد الحلبي بصورة شخصية تمييزهم لأنه يراهم كالجندي المجهول الذي يحافظ على إرث المدينة بصمت وإبداع. منذ اختراع الكاميرا والتصوير أصبحت الصور لها دور مهم في تشكيل فهمنا للثقافة والتاريخ وهوية الأشخاص الذين يظهرون فيها. فأصبح التصوير الفوتوغرافي ينظر إليه على أنه أداة للتوثيق الدقيق والموضوعي، نظرا لارتباطه الذي لا ينفصم بالعالم الحقيقي. إن خبرة حلبي العملية ومعرفته العلمية بعلم النفس وعلم الاجتماع دفعت عدسته وشغفه للتصوير لتوثيق الطابع الإنساني الاجتماعي والثقافي عن المدينة".
يقول قيم المعرض أحمد حفناوي: "أراد حلبي إبراز تفاصيل متعددة من حولنا كما لم نراها من قبل، فهو يوجه دعوة عامة للجمهور الذي قد يزور المدينة لأول مرة لأن ينظر للمدينة بمنظار شمولي أكثر ودعوة خاصة إلى أهالي بيت لحم لزيارة المعرض والاستمتاع بتفاصيل متنوعة لمشاهد موجودة بالذاكرة البصرية إلا أنه مع سرعة وانشغال الحياة لم نعد نراها. فقد نرى أن بعض الصور فد تبدو مألوفة مثل أشجار الزيتون في الجوار، إلا أن الصورة تأخذنا إلى جماليها الفني والرمزي كخطوط تقسم الأرض وتنبض بالحياة. وجرسية كنيسة التي شاركتنا أفراحنا وأحزاننا بترانيم أجراسها على مدار مئات السنين".
جهد حلبي خلال الفترة التي سبقت المعرض، للتحضير للوحات بصرية لأفراد أثروا المدينة، وفي المعرض إبراز بروتريهات لهؤلاء في حياتهم اليومية أثناء القيام بأعمالهم التي تكون غير مألوفة للبعض من حرف وصناعات أساسية في المدينة كأم نبيل التي يحفظ وجهها جميع من يمشي في أزقة بيت لحم وهي تجلس على درجات سوق بيت لحم القديم-مبتسمة كل يوم منذ 38 عاما، تبيع خضارها وتدعي للكل بالخير والسلامة. وجوني انودنيا فنان الأيقونات الذي يعمل بصمت، وشيخ المصورين الفلسطينيين موريس ميكيل المستمر في عمله بنفس الحماسة التي بدأ بها عمله منذ أكثر من ستين عاما، والمؤرخ خليل شوكة الذي كرّس عمره للتأريخ للمدينة، وسيدة المجتمع ليندا حلبي التي تتابع إرث المدينة المحلي وتحافظ عليه، والروائي أسامة العيسة الذي تتخذ كثير من أعماله من المدينة، فضاءً لها.
يقول حلبي: "البصر والبصيرة ليست فقط رواية بصرية لنتفاعل مع تفاصيلها، إنما دعوة مفتوحة لنتأمل ببصيرتنا وبقلوبنا التفاصيل اليومية التي مع سرعة الحياة الحالية أصبحنا ننظر إليها لكن لا نراها، وربما يجب علينا أن نعود إلى إيقاع حياة مختلف لنسترجع البصر والبصيرة في حياتنا".
الياس حلبي فنان ومصور فوتوغرافي فلسطيني ولد في مدينة القدس عام ١٩٨٤م، يسكن في مدينة بيت لحم دمج بين تخصصه الدراسي لعلم الاجتماع وهوايته بالتصوير حيث انه احترف مهنة التصوير المتمركز حول الفن الاجتماعي.
حصل على البكالوريس من جامعة بيت لحم، وعلى دبلوم مهني إدارة التراث الثقافي الفني في ايطاليا. حازت إحدى صوره  عام 2011 على جائزة منظمة السياحة العالمية التابعة للأمم المتحدة.
كمصور فلسطيني يحمل حلبي، مسؤولية توثيق إظهار جمال فلسطين بغناها الثقافي والاجتماعي وكذلك إظهار الأعباء والواقع القاسي الذي يعيشه الفلسطينيون بحياتهم اليومية محاولاً أن تكون أعماله وصوره ذات صدى يعلو كلماته. يحرص على تقديم فلسطين من زوايا مختلفة وإدراك ما فيها من غنى ديني وثقافي وحضاري. شارك الحلبي في معارض محلية وعالمية.
يستمر المعرض حتى العاشر من شهر كانون الثاني المقبل.
عدسة: فادي سند، حسن اللحام، يوسف الشرقاوي