من
الصعب لمن يرى الجدار المتروك وحيدًا في شارع الملك جورج الخامس في القُدْس
الجديدة، أن يدرك بأنه كان في يوم ما مدخل مدرسة، حتى لو انتبه للاسم الظاهر بالأحرف
اللاتينية (طاليتا قومي).
ولكن
هكذا كان الأمر، مع أوّل مدرسة للبنات تُفتح في القُدْس، عندما بدأت الفكرة في عام
1851م، بإقدام القَسّ الألماني ثيودور فليدنر، مؤسس جمعية كايزرسفيرث للشمّاسات،
بمساعدة أربع شمّاسات، على إنشاء ملجأ للبنات العربيّات في مدينة القُدْس، يتلقين
فيه التعليم، وهو بمثابة مدرسة، أتاحت، لأوّل مرّة، فرصة الدراسة لبنات القُدْس. اعتبر
القَسّ فليدنر، القُدْس، بشكلٍ أو بآخر موطنًا، وهدفًا لمشاريعٍ خَيريّة، وتبشيرًا
إنجيليًا، ولم تكن المدرسة التي أسسها، بمساعدة الشمّاسات، مجرد مدرسة، وإنّما
ملجأً تمكث فيه التلميذات، ويتعلمن، وفي البداية، لم يجد القَسّ تجاوبًا من أهالي
القُدْس، فتصرفت الشمّاسات (كما تبادر النساء دائمًا ويتصرفن)، واشترن بنتًا
زِنْجِيَّة، من سادتها، لتكون أوّل طالبات القسم الداخليّ، في دار الشمّاسات الّتي
وجدت فيها أيضًا المستشفَى الصغيرة، ولكن ذلك لم يدم طويلاً، وبعد سبع سنوات، أصبح
في مدرسته الإنجيليّة، أكثر من ثلاثين طفلة عربيّة ويهوديّة وأرمينيّة، سكنّ في
بيت المدرسة الداخلي.
خطت
المدرسة قفزة مهمة تاريخية، ففي عام 1868م دشن بيت جديد باسم (طاليثا قومي) في القُدْس
التي كانت تتمدد خارج الأسوار، التي ستعرف باسم القُدْس الجديدة، وارتفع عدد التلميذات
إلى (89) طفلة، وانفصلت المستشفى الصغيرة، لتصبح المستشفى الألماني في شارع
الأنبياء.
صمم
البناية، المعماري الألماني كونراد شيك، الذي أقام فترة طويلة في القُدْس، ويعتبر
من أبرز المهندسين الذين ارتبط اسمهم بحداثة القُدْس المعمارية بعد منتصف القرن
التاسع عشر، وكان وجهًا مألوفًا في حياة القُدْس العثمانية في تلك الفترة، وترك
يوميات مهمة عنها.
بنى
شيك، المهندس المعماريّ، والعالم الأثريّ، والمبشر البروتستانتي الذي أحب أن اسميه
العم كوكو، منزلاً في شارع الأنبياء، سمّاه (تافور)، مستوحيًا الاسم من الكتاب
الْمُقَدَّس، وزيّن واجهة المَنْزِل بمنحوتات لشجر النخيل والحرفين اليونانيين
ألفا وأوميجا ليرمزا إلى البداية والنهاية، وعندما توفي العم كوكو قبل سبعين
عامًا، نُعى من قبل المَسِيحِيّين والمسلمين والْيَهُود.
أتوقف
كثيرًا أمام منزل العام كوكو، وأتأمل في الحفر اللطيف على الحجر المائل إلى اللون
الأصفر على مشربية البيت، يبدأ بسنة البناء، ثُمَّ الحرفين، وفوقهما دائرتين،
شكلتا من القمح، وينتهي الإطار بساق يخرج منه فرعين، يمثلان نخلتين، ويواصل الساق
ارتفاعه، لينتهي بتشكيل يمِّثل الشَّمس.
واصلت
مدرسة طاليتا، كما ستعرف بين النَّاس، تطورها وتحقيق النجاحات في مبناها الجديد، فأضيف
إليها، عام 1905 معهد صغير لتدريب المعلمات، لتعليم البنات العربيّات، ومدرسة للشمّاسات
تحت التجربة من أصل عربي، برئاسة الشمّاسة شارلوت، وعرفت المدرسة باسمها بين
النَّاس، وأصبحت طاليتا قومي مدرسة شالوتة، وشالوتا، بين الْعَامَّة أمَّا من أراد
إظهار فصاحة فأصبح اسمها مدرسة شارلوتة.
وفي
عام 1914م، وُجدت في المدرسة 11 شمّاسة، لرعاية 140 طفلة، ولكنَّ الحظ لم يكن حليفًا
دائما للمدرسة، فخلال الحرب العالمية الأولى، اعتقل البريطانيون الشمّاسات الألمانيات،
ونفوهن إلى مصر، وأغلقوا المدرسة، وسيطروا على البناء، باعتبارهم الطرف المنتصر في
الحرب، بينما الألمان هم من خسروها، وعلى كل من يمت له بصلة دفع ثمن الهزيمة.
لم
تفتح المدرسة من جديد إلَّا في عام 1926م، بعد تسليم المدرسة لأصحابها، وانضم
إليها 35 طالبة تعلمن في القسم الداخلي، وبدأ مسار المدرسة ينتظم، وإن كان ببطء،
ففي عام 1933م، أضيف للمدرسة فرع التدبير المنزلي، كالخياطة، وتدريب مربيّات لرياض
الأطفال.
وبعد
ست سنوات، وصل عدد العاملات في المدرسة إلى 17 شمّاسة، وأصبحت تضمّ المرحلتين: الابتدائية
والثانويّة، بينما توقّف عمل معهد تدريب المعلمات ومدرسة الشمّاسات.
ومثلما
حدث في عام 1918م في الحرب العالمية الأولى، وتوقف المدرسة بعد وصولها إلى أوجها،
تكرر ذلك عام 1939م، بعد تمكن المدرسة من تطوير نفسها، فتوقف العمل فيها، مع
اندلاع الحرب العالمية الثانية، وكررت بريطانيا العظمى، للمرة الثانية، اعتقال الشمّاسات.
وظلت
مباني المدرسة فارغة، ولكن في عام 1949م، استولى المحتلون الإسرائيليون على
المباني والأراضي التابعة للمدرسة، بعد احتلال
الجزء الغربي من مدينة القُدْس. أصبحت المدرسة، غنيمة حرب..!
ستستأنف
المدرسة عملها في مدينة بيت جالا التي خضعت للحكم الأردني، عام 1950م، في مبنى
جديد، لاستيعاب التلاميذ اللاجئين بسبب النكبة، وما زالت حتى الآن تقدم خدماتها
للطلبة، وتنشط في مواضيع اجتماعية وبيئية، لكنها تفتقد جزئها الرئيس في القُدْس.
في
عام 1970م، قررت حكومة الاحتلال هدم مبنى المدرسة، ربما لتلغي نهائيًا، فكرة
إعادتها إلى الألمان، وأنشأت مكانها، سوقا تجارية، تعرف باسم (الهامشبير)، ولكنها
أبقت على المدخل المهيب، ربما للتذكير بنصرها على المدرسة التي احتضنت خصوصًا
البنات اليتيمات، من مختلف الطوائف، ويظهر المدخل الآن، على شكل قوس مبني من الحجر
المحلي (الطبزة)، على جانبيه، قوسان أصغر، ويظهر نقش لحمامة، وهو شبيه بالنقش على
مدخل المستشفى الألماني في شارع الأنبياء الذي صممه أيضا العم كوكو، وثبت عليه حفر
لحمامة، تحيط بها حبات حجريّة شكّلها الحجّار دائريًا حولها. أحاول عد هذه الحبات
التي تساقط جزء منها بفعل الزَّمَن، ولكنّ غصن الزَّيْتُون الذي تحمله الحمامة لم
يتأثر. المستشفى أصبح محتلاً (طبعا)، ويعالج فيه اليهود المتدينين.
حمامة
العم كوكو ما زالت صامدة، على مدخل طاليتا قومي، وتبدو بحماية الساعة التي ما زالت
تعمل، ربما لتذكر المارين غير المنتبهين،
بالجدار المنتصب في شارع مزدحم بالغرباء..!
المؤسف
أن الإسرائيليين، استحوذوا على العم كوكو، ويحتفون به كرائد مقدسي، ويذكّرون الناس
بذلك في منشورات في شوارع القدس الجديدة، في حين يتجاهله الفلسطينيون، ويجهلونه.
هذه
السطور، هي أيضا، بالإضافة إلى أشياءٍ أخرى، محاولة لاستعادة العم كوكو..!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق