لا
يدرج ابن الجوزي الثرثارين، ضمن الحمقى، إلَّا إذا اعتبرنا: "الكلام من غير
منفعة، والثقة بكل أحد، وإفشاء السر"، من صفات الثرثار.
تجنب
ابن الجوزي ذكر الثرثار صراحة، ضمن الحمقى، ولعله فعل ذلك قصدًا، في مجتمعات يحتل
فيها الثرثارون، مكانةً، وقبولاً، من الخطباء ثقيلي الظل، إلى العاديين خفيفي
الظل، ولعلَّ حلّاق بغداد، في ألف ليلة وليلة، واحد من أكثر الثرثارين المحبوبين
لدى محبي السمر من العرب، وما زالت حكاياته صامدة وتقرأ، وملهمة لمسرحيات وحكايات
لكتّاب من الشرق والغرب.
لا
تحمي المكانة التي يضع الثرثار نفسه فيها، أو يضعونه فيها، من المشاكل التي يمكن
الوقوع في شباكها بسهولة، خصوصًا عندما يكون فضوليًا، ولكن الثرثرة قد تكون ميزة،
في دول الدكتاتوريات، رغم أن كثيرين يرونها غير ذلك، وشعارهم: "لا تثرثروا،
اقتصدوا في الكلام، فحتى الجدران لها آذان".
أكثر
النصائح التي أتذكرها من أُمّي، عدم التجاوب مع الثرثارين، الذين قد يكونوا جواسيس
ومخبرين، خصوصًا، إذا سافر الشخص إلى بلد آخر، مثل الأردن، الذي حكم الضفة الغربية
من عام النكبة إلى عام النكسة، وحسب أمهاتنا، في ذلك الوقت، فان السائقين في شوارع
عمّان، جميعهم مخبرين، يفتحون الأحاديث مع الركاب، خاصة الآتين من الأراضي
المحتلة، ليجروهم في الكلام، ويعرفون أفكارهم السياسيّة، ولا يندر، حسب الأمهات
الخائفات اللواتي يختزن سنوات طويلة من قمع الحكومات، أن يذهب السائق مباشرةً إلى
دائرة المخابرات، حاملاً الضحية المسكين، بدلاً من إيصاله إلى المكان الذي طلب
الوصول إليه، وأنقد السائق ثمن ذلك.
وبالطبع،
لا يمكن لوم الأمهات، سليلات نساء ما أن يخرجن من قهرٍ وقمعٍ، حتى يقعن في قهرٍ
وقمعٍ أبشع، فخلال أقل من قرن، كان عليهن أن يختبرن بشاعة العثمانيين، والانجليز،
وحكم مصري عسكري محدود، ثم الحكم الأردنيّ الملكي، فالاحتلال الإسرائيليّ المستمر
حتى الآن، والذي يقتل ويسجن ويهوّد الأرض، ويعلو على كل ذلك ضجيج صراعات فتح وحماس،
وكل واحدة منهما، في سلطتيهما المحدودتين جدًا تحت الاحتلال، في الضفة وغزة، قلّدت
النظام الأردني في سنوات أحكامه العرفية السابقة، فأصبح لكلٍ منها أجهزة أمنية
متعددة، وعدد غير معروفين من المخبرين الذين يطلق على الواحد منهم: مندوب. كيف
تتغير المصطلحات، وتظلّ الدلالات؟
يطلق
البعض على المعتقل السياسيّ السوريّ السابق، خالد العقلة، لقب منديلا سوريا،
لقضائه سبعة وعشرين عامًا في السجن، وقد يكون هناك من أمضى أكثر من ذلك. اعتقل العقلة
لانتسابه لحزب البعث فرع العراق، ولو اختار فرع سوريا، ربما لما جرى له ما جرى.
الآن يمكن أن نمارس ترف الأسئلة، بشكل استرجاعي ونسأل لماذا اختار أن يكون بعثيّاً
عراقيّاً، وليس بعثيّاً سوريّاً، ما دام البعث هو البعث؟ ولكنَّ الأمرَ بالنسبة
له، في تلك المرحلة على الأقل، مسألة عقيدة ومبدأ. ستذوب المسائل مع الوقت،
وتتفتت.
الشهادة
التي قدمها العقلة من خلال تلفزيون سوريا، عن سنوات سجنه، مريعة، وهو أقل وصف لها،
خصوصًا فيما يتعلق بمجزرة سجن تدمر.
رغم
السنوات السبعة والعشرين في السجن، يضحك العقلة، وعندما خرج من السجن، رأى ضمن من
رأى رفيقًا سابقًا له وقد شاخ، وكان يمكن لو اعترف عليه أن ينام، حسب تعبير العقلة،
عشرين عامًا، مرّة واحدة، في السجن، ولكن العقلة لم يعترف عليه، ليس لأن من شيم
الحزب الذي ينتمي إليه، عدم الاعتراف على الرفاق، أو رقة لحاله، أو شهامة بدوية من
العقلة نفسه، وإنما فقط لأنه ثرثار، ولو اعترف عليه العقلة، سيعترف الثرثار، على
العشرات من رجال ونساء، فأنقذته ثرثرته. هل فرح الثرثار بذلك حقًا، وأدرك فوائد
الثرثرة؟ ثمة شك، ماذا روى الثرثار خلال السنوات الطويلة، التي قضاها رفيقه في
المعتقل؟ من أي نبع سحب ماء حكاياته، وهو قلق من زلة لسان رفيقه التي قد تودي به؟
ربما لو أمضى عشرين عامًا في سجون النظام، لتزوّدت ثرثرته بحكايات سيستفيد منها حتى
لو ظهر، بعد موته في حياة أخرى.
يروي
العقلة عن رفيقه الثرثار وهو يضحك. هل ضحك الرفيق الثرثار أيضًا؟ سيكون عدم
اعترافه على رفيقه الثرثار، ملحة ينثرها على جروح سجنه، وتمنحه ثقة ما، بأنه، وإن
اعترف على رفاق له، إلَّا أن هناك بضعة أسرار لديه، لن يعرفها الجلاوزة. سيمضي
سنوات السجن، بما أبقاه لنفسه من أسرار حتى لو تعلقت بثرثارٍ يستحق الرثاء
والشفقة.
حاولت
تذكر الأصدقاء والرفاق الثرثارين، لم أنجح كثيرًا، أعرف أصدقاء لا يتوقفون عن
الحكي، مدفوعين بوسواس قهري، غير إرادي، يثرثرون ولا يستطيعون التوقف، فأعذرهم
وأتقبلهم، ويريحونني عادة من تبادل الحديث معهم، فأنصت لهم مستمتعًا مرتاحًا
ومريحًا، ولكنني تذكرته، ذلك الناشط الحزبيّ الشاب، الذي يمكنه أن يكسب أية جولة
نقاش لصالحه، من الأدب إلى السياسة إلى شؤون أميركا اللاتينية، والبوليساريا،
وكوبا، وليس انتهاء بفيتنام، وأفلام هوليود ونجومها من مارلين مونرو إلى جين
فوندا، مضفيًا طابعًا طبقيّاً ماركسيّاً على تحليلاته، رغم ضحالة قراءاته.
كشف
لي سرًا، كان مهمًا وكبيرًا ومفاجئًا في تلك الأيَّام من أوائل ثمانينات القرن
الماضي، عندما شارك في كونفرنس سرّي للمنظمة، قد يكون الأوَّل والأخير، عقدته في
ضواحي القدس، علمت مخابرات الاحتلال به، فدهمت الموقع، وصادرت الأرشيفات، وسجلت أسماء
الكوادر الحاضرين، واعتقلت واحدًا أو اثنين منهم، وأفرجت عن الباقي.
دهم
مقر الكونفرنس، يبدو أنه شاع، واستغلته المنظمات الأخرى، للنيل والتشويه، فأصدرت
المنظمة بيانًا داخليًا، وجهته للأعضاء نفت فيه ما يشاع، وعيّرت المنظمات الأخرى،
مثل الجبهة الديمقراطية التي ما زال يترأسها حتى الآن نايف حواتمة (بديمقراطية
واضحة..!)، بأنها تعرضت لخرق خلال الوجود الفِدائيّ في الأردن، وان المخابرات الأردنية
استولت على أرشيفها. وخلاصة القول، ليس هناك أحسن من أحد، والكل متساوي في خرق
المخابرات لجسده.
عندما
أستعيد تلك الثرثرة، وغيرها، أدرك الآن، بأنها حمتني مبكرًا، من الوقوع في أسر
الأوهام، وجعلتني أنجو مبكرًا، من العصبيات القاتلة، وما أكثرها في الساحة
الفلسطينية.
لا
ينجو كثير من الكتّاب، أيضًا، من الثرثرة، والتي تبدو لي أحيانًا، غير ممتعة، وغير
مفهومة، فمثلاً، لا أفهم ما أقرأه لروائيٍّ عربيٍّ بارز ومقروء كواسيني الأعرج،
ولم استمتع بجفاف ثرثرة كاتب مشهور مثل اورهان باموق.
سمى
معلمنا الكبير، نجيب محفوظ، روايته التي قدم فيها شخصيات من المجتمع الناصري قبل
الهزيمة، ثرثرة فوق النيل، وما دام الأمر ثرثرة فقط، فان الرقابة لن تعترض على
الرواية، كما قدر، وفي عهد جديد معاد للناصرية، أُنتج فيلم عن الرواية، بنفس
الاسم، ربما للإيحاء بالوفاء للنص الروائيّ، ولكنّه جاء أيضًا مشبعًا بالرموز،
التي تحتملها الثرثرات، في مجتمعات تعيش بها، وفيها، وربما لها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق