من
نتائج الحرب العالمية الأولى، فقدان جَدّي مُحيسن (تلفظ باللهجة الفلسطينية
إِمحيسن) للنظر. لم يؤمن بشعارات دولة الخلافة عن الجهاد، ولم يقتنع بمبررات
دخولها الحرب. فأصبح فراريًا، هناك أعداد لا حصر لها من بلاد الشام، جُندت رغمًا
عنها في الجيش العثمانيّ، ولم يعرف عن مصيرها شيئًا حتى الآن، وعندما انتهت السفر
برلك، كما سُميت تلك الحرب، عاد من عاد إلى القرى التي سيقوا منها للحرب، وهم قلة،
ومن بينهم مُحيسن.
ورغم
أنه عاد منهكًا، ويائسًا، وضريرًا، بسبب اختفائه في مشحرة فحم، فترة كانت كفيلة
بسرقة نظره، إلَّا انه كان أفضل حالاً من كثيرين انقطعت أخبارهم، ولم يفكر أحد في
مصيرهم.
هذه
الرواية العائلية، التي أُريد لنا تصديقها، لأنها قد تكون أخف على الروح، من رواية
قد تكون حقيقية أكثر منها. من تجربتي مع روايات العائلة وقريتي واللاجئين
الفلسطينيين، فإنني يمكن لمس ما يمكن تسميته الإنكار، والتماهي معه، وتبني حكايات
أقل وطأة باعتبارها هي الحقيقية، وتواري الحوادث، والوقائع، والحكايات، إلى حد
محوها جديًا ونهائيًا من الذاكرة الجمعية.
كم
موت، ومجزرة، وحرب، واقتلاع، ودولة، يمكن أن تحتملها حياة واحدة؟
على
الأرجح، لم يكن جَدّي فراريًا منذ البداية، قد يكون أصبح كذلك، في فترة من فترات
الحرب البائسة تلك، التي جاع وعطش ومات فيها المجندون، ففي رواية عائلية أخرى، أن مُحيسن
فقد نظره خلال عمله في القطار البخاري، الذي ينقل الجنود إلى ترعة السويس، وتؤكد
الوثائق العثمانية المحفوظة الآن في (أرشيف دولة إسرائيل) خدمته في الجيش في
تجريدتين على الأقل، والتجريدة هي اقتحام قرى الفلاحين، لجرّهم للخدمة الإلزامية.
في
سجل رقم 195/a
في أرشيف دولة الاحتلال، الخاص بأسماء الذين خدموا في الجيش العثماني من قرية
زكريا، يرد ذكر جَدّي من بين الملتحقين بالجيش العثمانيّ عام 1914م، وفي السجل الذي
يحمل رقم 336، وفيه كشف بمن خدم في الجيش العثمانيّ خلال عامي 1915-1917م، يرد اسم
جَدّي، وتاريخ ميلاده 1298ه، ما يوافق العام الميلادي 1882م.
حاولت
البحث عن كيفية عمل القطار البخاري، وعلمت أن المحرّك البخاري في القاطرة، يتكوّن من عدة
أجزاء رئيسية، وأنا أنقل هنا عن مرجع في الانترنت، وهي: المرجل (خزان المياه)،
وصمام منزلق، وأسطوانة، وخزان بخار، ومكبس، وعجلة قيادة. يتم حرق الفحم داخل صندوق
الحريق الموجود في المرجل، والذي بدوره يعمل على رفع درجة حرارة المرجل من أجل
تسخين الماء.
جَدّي
وجد نفسه في محركٍ بخاري، في يومٍ ما، خلال السفر برلك، والتي تعني السفر عبر
البر، ولم يكن وحده، كما يروى، ولسببٍ معين، نُسي مع رفاقه، وعندما فُطن إليهم
أخيرًا، أخرجوهم، ولكن بعد فوات الأوان، وقد أصيبوا بالعمى.
تبدو
لي هذه الرواية عن فقدان جَدّي لبصره، مفزعة، أكثر بكثير، من فقدانه النظر، في
مشحرة فحم، اختبأ فيها مضطرًا، ولكنه كان ذلك قراراه، الذي عليه تحملّ نتائجه، أم أن
يصل الإهمال العثمانيّ، حدّ إفقاد جَدّي لبصره، فهو أمر مفزع حقًا، حتّى لو لم يكن
وقتها أية قيمة للإنسان، خصوصًا إذا كان من مخزون الحكومات التي توالت على فلسطين،
ولم ترى في الفلّاحين، إلّا جنودًا لدى الحاجة، ومصدرًا لعصرهم ضرائبيًا، بحيث
يبقون دائمًا على حافة الفقر، وليس نادرًا
في فقرٍ، قد يكون مدقعًا.
عندما
ظهر جَدّي، فجأة في شوارع القرية، مكسورًا، ضريرًا، كان عليه، من جديد اختبار
قدرته على الصَّبْر، التي جرّبها كثيرًا قبل وصوله، فماذا يمكن لضرير مثله أن
يعمل؟ من سبقوه من فاقدي البصر، منذ الصغر، يمكن للواحد منهم، أن يسير في الحياة، على
ما خطته له عائلته، كقارئ قرآن، على القبور وفي الموالد، وفي المناسبات، أو يعمل
شيخًا لمسجدٍ، أو يستقر في زاوية صوفية، ولكن كل ذلك، كان مستبعدًا لفاقد مستحدث
لبصره.
لم
يستفد جَدّي، من الحداثة التي أحدثها الاحتلال البريطانيّ الجديد، فلم يدخل مدرسة
القرية، بسبب عطب عينيه، ولأنه، أيضًا، كان كبيرًا على دخول مدرسة، ولم يمرّ وقت
طويل حتى اكتشف بان حكومة الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس، ليس أفضل حالاً،
في سياستها تجاه الفلّاحين، من سابقتها دولة الخلافة، التي لم تبني مدرسة واحدة
طوال أربعة قرون في برّ القُدْس.
في
صيف 1919م، وصل مأمور التفتيش إلى قرية زكريا في الهضاب الفلسطينية المنخفضة، لحصر
ضريبة الأعشار، فتش في أرض مُحيسن عن محاصيل صَيْفِيَّة كما هو مسجل في النموذج:
ذرة، سمسم، زيتون، عنب، تين، بندورة.
ويبدو
أنه فوجي، بأنَّ هذا الضرير المثقل بإرث ظلم الإمبراطورية السابقة، لم يزرع شيئًا،
بسبب عجزه، ولكنَّ المفتش، لا يمكن أن يعود خالي الوفاض، مثلما لم يكن ليفعل ذلك باشا
الدورة، والملتزمين من أفندية القُدْس، وارستقراطيتها الدينية، التي نشأت مع الحكم
الْقُرَشِيّ، للُقْدس وفلسطين، فأضاف مأمور التفتيش بخط يده على النموذج الرَّسْمِيّ،
محصول جديد وهو الصَّبْر (الصبار، التين الشوكي)، الذي يزرعه الفلّاحون حول
حقولهم، ولا يحتاج أية عناية منهم، وهو غير مشمول بأيّة ضرائب، وأجبر مُحيسن على
دفع ضريبة الأعشار عن 30 كيلو صبر.
يمكن
لنا تخيّل المشهد، والجدال بين المأمور ومُحيسن، الذي سيحسمه في النهاية منطق
الحكومة وبطشها، وهو ما كان يعرفه مُحيسن جيدًا، كسليل لخيط طويل من الفلّاحين
المقهورين. الذين يزورهم ممثلو الحكومات، إمّا لجرّهم للموت في الحروب، أو لسلبهم
منتجاتهم.
لم
يكن لدى مُحيسن، من يساعده في العناية بأرضه، سوى زوجته الجميلة هَندة سالم هارون
فرارجة، ويبدو أنها لم تتمكن، وحدها من العناية بالأرض، ولم تنجز ما يعتد بهد، بعد
عامين من انتهاء الحرب الطاحنة، التي رافقتها مجاعة حقيقية، وهجوم متكرر للجراد،
وانتشار الأوبئة القاتلة.
عاش
مُحيسن، ليرى كيف تغيب الشمس عن إمبراطورية الانجليز، مثلما شهد غياب إمبراطورية
العثمانيين، وليطرد مع المطرودين من قريته، ويصبح، هكذا، حتى بدون برهة للتأمل أو
التفكير، لاجئًا ضريرًا، يقوده ابنه عبد الفتاح، بين مناطق اللجوء حتّى الاستقرار
المؤقت في مخيم النويعمة قرب مدينة أريحا.
في
مخيم اللجوء، لم تستطع زوجته هندة، الاحتمال أكثر، بعد أن قدمت ما عليها من تسلح بالصَّبْر،
وتجربة الطرد، واللجوء.
وضع
عبد الفتاح، جثمان والدته، في ترك، وذهب مع رفاقه المشردين من أرضهم إلى أرض
غريبة، لدفنها في برية القُدْس، بجوار مقام النبي موسى، حيث يدفن النّاس موتاهم
قرب كليم الله، تبركًا، ولكنَّ الأمرَ بالنسبة لابن هندة، كان الموقع المتاح،
والذي يُدفن فيه، بدون إجراءات وتعقيدات وأوراق.
استقر
مُحيسن وولده، وزوجة ولده وأحفاده، في مخيم الدهيشة في بيت لحم، وجرّبوا كيف تسقط
الخيام عليهم، بفعل الثلج، وموت الأولاد المفاجيء والغريب، ولم يعش مُحيسن كثيرًا،
بعد عام أو عامين لحق بزوجته، وكان على ابنه عبد الفتاح هذه المرّة، أن يحمله
ليدفنه بجوار قبة راحيل، المرأة اليهودية، التي جلها فلاحو فلسطين، واعتبروها بمثابة
نبية، ويسبقون ذكر اسمها بلقب (ستنا).
لم
يعش جدي، ليختبر الاحتلال الإسرائيلي، ولكنّه قد يشعر الآن، بكيف حاصر المحتلون
مقام راحيل، واحتلوه، وأحاطوه بجدران، وحولوّه إلى جيب عسكري واستيطاني في بيت
لحم، وحاصروا المقبرة، ويراقبون الأحياء والأموات، من أبراجهم العسكرية العالية،
وأحب أن أعرف كيف استقبل جَدّي هذا الهجوم، المستمر من حزيران 1967م، والذي يتعمق
مع الوقت، كيف ستكون ردة فعله، عندما يعلم، بان آخر احتلال لفلسطين يلاحق ما تبقى
من عظامه؟ وقتل العديد من الأطفال والفتية، بجوار المقام.
توالت
الحكومات وجباة الضرائب على فلاّحي فلسطين. وراكم الأفندية ثروات، وازداد الفلاحون
فقرًا، ودفع أبناؤهم ثمن الصراعات الداخلية بين الأفندية أنفسهم، والمواجهات مع
العدو. متى كانت آخر ثورة للفلّاحين ضد الإقطاع والأفندية؟ متى كانت آخر ثورة للفلّاحين
ضد العدو؟ ومن يذكر كيف أجهضها الأفندية؟
لماذا
زرع اللاجئون الصَّبْر، في مخيمات اللجوء؟
أزرع
الصَّبْر، في أحواض الزينة، تكريمًا لصبر جَدّي. دون أن أميز أي صبر منهما؛ صبره
الذي زرعه، أم صبره على الصَّبْر نفسه؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق