تبدأ أولى مراحل
رياضة درب الآلام الروحية، في القُدْس، من "الحيّ الإسلامي"، قبالة باب
الأسباط، بوابة الحرم القدسي الشريف، الشمالية الشرقية، وعلى امتداد الشارع تنتشر
الكنائس والمواقع، التي تؤرخ لتلك الأحداث الدرامية المفترضة في حياة المسيح، التي
شهدتها المدينة قبل ألفي عام، وتختلط المعالم الاسلامية والمسيحية، بشكل يمكن
لمحبي الرموز، اجتراح علامات بأبعادٍ دينية-وطنية، فيمكن ان نرى مثلا، القوس
الحجري المعروف باسم (هذا هو الرجل) يبدأ من الزاوية النقشبندية، وينتهي على كنيسة
الحكم، وكذلك الامر فيما يخص كنيسة الصلاحية، المدرسة-الكنيسة التي تناوبها
المسلمون والمسيحيون، وفق أهواء الحكّام السياسية.
وفي الأحياء الأخرى: المسيحية، والارمنية،
واليهودية، تختلط المعالم الإسلامية، مما يدرج سؤال جديًا، حول تقسيم بلدة القُدْس
القديمة إلى أربع حارات، وفق تقسيم طائفي، على الأرجح هو تقسيم مفتعل، ويخدم أهدافًا
سياسية.
في الحيّ اليهودي
الحديث، ما بعد الاحتلال في حزيران 1967م، نجد تمثّلا لما يريده الاحتلال، جيب
استيطاني، شبه مغلق، توسع بعد هدم منازل عربية، وحارة المغاربة، وإغلاق المساجد
داخل الحيّ.
في عام 1992م، نشر
الباحث أدار أرنون مقالاً رفض فيه التقسيم الرباعي للقُدْس على أساس الحارات
الطائفية: "إذا كانت مدينة القُدْس القديمة اليوم تقسّم إلى حارات أربع
ابتكرت في القرن التاسع عشر وعزيت إلى الطوائف الأربع، وليس وفقا للأسماء
الجغرافية المحلية المستخدمة منذ قرون، فذلك يعود إلى الأسس الحديثة التي اعتمدها
مراقبون دخلاء عليها لرسم خرائط المدينة المقدسة وليس من قبل سكان المدينة
نفسها".
يرى الباحث الفرنسي فانسان
لومير، وهو واحد من مؤرخي القُدْس الجدد وأكثرهم تفردًا، بأنَّ تقسيم المدينة
الرباعي القصد منه: "تجزئة المدينة والحرص على عدم تجاوز هذه الخطوط الفاصلة
التي يفترض أنها ملازمة لها". ويورد في كتابه الصادر حديثا بعنوان (القُدْس
1900: زمن التعايش والتحولات) خريطة فرنسية تعود إلى عام 1881م تقسّم القُدْس إلى أربع
حارات، مشيرًا إلى أن "رسم الخرائط التي تفصِّل المدينة إلى حارات أربع لم يُعتمد
إلّا في ستينات القرن التاسع عشر"، ومؤكدًا بأن ذلك مجرد: "اختراع متأخر
في مجال رسم الخرائط/ أدخله من الخارج، مراقبون أوروبيون"، وضعها منذ القرن
التاسع عشر، حجاج أو مستكشفون غربيون غافلون عن الحقائق المحلية. ويؤكد ادار
ارنون، بان الخرائط والمخططات ليست تمثيلات محايدة، وينبغي إخضاعها إلى التحليل
النقدي ذاته الذي تخضع له النصوص، ليست الخرائط أكثر "موضوعية" أو أكثر
دقة من المصادر النصية، فكل واحدة منها تعبر عن وجهة نظر مفردة في شأن الواقع
المعاين، وما قضية القُدْس سوى مثل فاقع عن هذه الظاهرة.
يقول لومير: "إن
هذا التقليد الرباعي الشهير هو في الحقيقة رؤية حديثة وغربية المنشأ، من صنع رحالة
غربيين قدموا إليها خلال القرن التاسع عشر. إن هذا التمثيل "التقليدي"
ليس وليد ماض سحيق ولكنّه، بالعكس، من التاريخ الحديث للمدينة".
ويضيف: "إن مجرد
تحليل العشرات من خرائط المدينة المتعاقبة المحصية والتي تعود إلى القرنين الثامن
عشر والتاسع عشر، يشكِّل بالفعل عنصرًا حاسمًا في البرهان: قبل العام 1837م، لم
يذكر رسامو الخرائط أي ارتباط عرقي-ديني لهذا القسم من المدينة أو ذاك".
في التعدادات
العثمانية ما بين 1883-1905م تظهر أسماء سبع حارات: باب حطة، والسعديّة، وباب
العمود، والواد، والنصارى، والسلسلة، والشرف، وهو ما نجده عند المؤرخ الفلسطيني
البارز عارف العارف.
يلاحظ لومير وهو يحلل
تعداد عام 1905م: "في حارة الواد على سبيل المثال الواقعة مباشرة إلى الجهة
الشمالية-الغربية من الحرم، وتشكل جزءًا لا يتجزأ مما يسمى "حارة
المسلمين" كما يجري تمثيلها عمومًا، هناك في العام 1905م أرباب أسر يهودية
(388) أكثر من أرباب أسر مسلمة (383) وبشكل متناظر في حارة باب السلسلة، في قلب ما
يسمى بحارة اليهود (548) رب أسرة مسلمة مقابل (711) رب أسرة يهودية".
ويضيف: "في حارة
السعديّة إلى الشرق من باب دمشق، أي في قلب ما يسمى (حارة المسلمين) هناك (124) رب
أسرة مسيحية مقابل (161) رب أسرة مسلمة".
ويشير: "إذا ما أجرينا
توليفة لهذه البيانات من تعداد العام 1905م، والتي تشير إلى أن ثمة ابتعادًا عن
(المعيار)، نجد أن 29% من الأسر المسلمة تعيش داخل ما يسمى حارة اليهود، وان 32%
من الأسر اليهودية تعيش داخل حارة المسلمين، وان 24% من الأسر المسيحية تعيش داخل
هذه الحارة المسلمة ذاتها".
ويستنتج: "إن الأرقام
تحدِّث من تلقاء ذاتها: في بداية القرن العشرين، لم تكن حارات القُدْس الأربع
الشهيرة تعبر بصورة صحيحة عن الواقع الديمغرافي الاجتماعي للمدينة".
تحظى كتابات مجير
الدين الحنبلي مؤرخ القُدْس المملوكية، باهتمام متزايد من الباحثين، وهو لا يتحدث
في عام 1408م عن أربع حارات وإنما عن تسع عشرة حارة.
ومن خلال كتاباته،
يمكن وضع خارطة للقُدْس، تمثّلها في أواخر العهد المملوكي، الذي ما زالت أثاره هي
الأبرز في المدينة، والتي استفاد مخططو تلك الحقبة من تمثلات القدس البيزنطية.
في عام 1900م يؤكد
لومير: "في القُدْس، عند منعطف القرنين التاسع عشر والعشرين، كانت الغلبة
للاختلاط على حساب الفصل الطائفي".
وسنجد لدى الباحثين الأكثر
اطلاعا وصدقية رفضًا لتقسيم القُدْس إلى أربع حارات، وهو حال الباحث الألماني كونراد
شيك الذي عاش في القُدْس من العام 1846م حتى وفاته في العام 1901م، وهو ما يظهر في
خريطة نشرها في العام 1895م في نشرة علمية ألمانية.
يعتقد لومير أن: "تقطيع
مدينة القُدْس القديمة تقطيعًا رباعيا أفضى في نهاية المطاف إلى أثار سياسية
وتاريخية، عندما شرعه المحتل البريطاني بعد العام 1917، سواء من حيث الحقائق
المادية في المدينة أو على بطاقات الهوية لسكانها".
وخلال حقبة الاحتلال
البريطاني، تعمقت فكرة تقسيم القُدْس إلى أربع حارات، وسرَّع في ذلك المواجهات في
الثلاثينات، حتى قسمت النكبة القُدْس.
ومن المؤسف كما يرى
لومير انه في الوقت الحاضر يشكِّل التقسيم الرباعي للقُدْس: "أحد الأسس
الرئيسة التي تجري عليها المناقشات في شأن مستقبل المدينة المقدسة. حتى إذا أعطى
القرن الحادي والعشرون لهذا التمثيل حقيقة واقعة معينة، يجب أن نتذكر أن ذلك لا يتعدى
كونه أمرًا حديثًا ومعطى مؤقتًا إذا، بحكم التعريف".
ومن المؤسف أيضًا، هو
التبني الغريب من الفلسطينيين، للتقسيم الطائفي المفتعل، للمدينة التي تشكِّل
عنوانًا لمطالبهم التحررية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق