في
الصورة، التي أتحفنا بها نشطاء الفيس، حافلة خطّ القدس- بيت لحم، أو تابعة لشركة الباصات
الوطنيَّة (القدس- الخليل)، بمحاذاة طنطور فرعون، واحد من أكثر الأوابد حيرةً وجدلًا
في القدس. من باب البروباغندا الأدبيَّة، أشير إلى أن أحد الأسماء التي اقترحت
لروايتي سماء القدس السابعة، هو طنطور فرعون.
الحافلة
في وادي النَّار، أو وادي جهنم، أو وادي سِتنا مريم، أو وادي الجوز، أو وادي
يهوشفاط (بعض الصفحات الفلسطينية المتحمسة تذكر بغباء وادي شعفاط) أو وادي سلوان،
وقد أنهكته الديانات الإبراهيميَّة أسطرة.
الحافلة،
على الأرجح، في طريق العودة إلى بيت لحم أو الخليل، الزمن قبل ذلك الحزيران، الذي
أدخل مصطلح النكسة في تاريخنا المنكوب، وكأنَّه لم يكن ينقصه إلَّا الانتكاس.
نكبت
النكبة الطريق الى القدس، واغلق بالقرب من دير مار الياس، وأضحت المنطقة منطقة حرام،
بين الطرفين الأردني والإسرائيليِّ، لكن في الواقع تركت المنازل والقصور فريسة
للمحتلين. أسكن فيها، خصوصًا من اليهود الشرقيِّين، لرفض الغربيِين السكن قرب خطوط
النَّار وإن كانت نارًا هامدة. بالنسبة للشرقيِّين فإنَّ الانتقال من خيام مخيمات
الاستيعاب، كمخيم معسكر اللنبي، القريب من الكلية العربيَّة، إلى القصور الحجرية، كالصعود
إلى جنان عدن.
استحدثت
طريق وادي النَّار النَّارية المتلوية كأفعى، ولكن الأمر لم يطل، فأصبحت طريق
القدس، أقل وعورة. وإن كانت لا تنافس الطريق التَّاريخيَّة.
ناس
مخيم الدهيشة من جيل النكبة الأوَّل، جرَّبوا الطريق الجديدة، مشيًا طقسيًا. بعد
صلاة الفجر أيَّام الجمع في مسجدهم، أو بعدها ينطلقون في حجٍ إلى القدس، يستقطبون
أبناء لهم خشية إمعانهم في الارتهان للأيديولوجيات الهدَّامة المسيطرة على المخيم،
وتعد ناسه بالتحرير والنصر والوحدة والاشتراكيَّة، وإن كانت تصارعت على أسبقية
الوحدة أو التحرير، حُبرت الأفكار والمنافرات وحيَّرت واستنزفت الأدمغة والحناجر.
جيل الآباء كان يعرف أنَّه يخوض سجالًا غير متوازن مع الأبناء الأغرار الَّذين لا
يسمعون النصائح، ففي المدرسة مثلًا كان المدير صبحي الناشف بعثيًا والمدير اللاحق خضر
قبيع الطرزي، بعثيًا أيضًا، وكذلك موسى درويش، وكان الصيدلي الشاب الذي يحمل في
حقيبته عينات الأدوية، يوزع المناشير، الآباء المستعجلين لم يصبروا ليزمن الزمن.
أصبح الصيدلي أبطر أباطرة صناعة الأدوية.
لأسباب
لا أعرفها، جميع البعثيين، أصبحوا لاحقا من الشق الصدَّامي العراقي في الحزب، الذي
أطلق عليه الجناح السوري الأسدي، الجناح اليمينيِّ.
من
أبرز المدرِّسين الشيوعيِّين محمود الخطيب، خريج الصف السادس في مدرسة زكريا
الأميرية، قبل النكبة، والمستشار اللغوي للشاعر خليل زقطان، أوَّل مدير لمدرسة
الخيام في المخيم. زقطان هو صاحب ديوان صوت الجياع، طبعه في مطبعة دار الأيتام
الإسلاميَّة في القدس، وكان صدوره مؤثرًا في جيل من الشعراء الشباب آنذاك، كما ذكر
الراحل عزّ الدين المناصرة. من المدرسين القوميِّين والناصريين: أحمد برهوم.
الكاتب رشاد أبو شاور ابن المختار الشيوعيِّ، يذكر أسماء مدرسين آخرين في المدرسة:
سليمان مزهر، ونمر العطابي، وأحمد العجوري.
ينطلق
الموكب من المخيم إلى قُبَّة سِتنا راحيل الَّتي يُفترض أنَّها قضت في المكان وهي
تضع بنيامين الَّذي أخذ اسمه من واقعة موت أمه بعد يومين، فأصبح ابن اليومين في
الذاكرة الشعبيَّة، سيذكره البابا فرنسيس (2014) وغيره من إخوة خرجوا من بطن
راحيل، التي عاشت مـأساته الخاصة في ملحمة حياتها مع يعقوب. قال البابا المحبوب،
الذي خلف بابا غير محبوب مستفز: ما زالت راحيل تبكي أبناءها!، في قدّاس في ساحة
المهد، على بعد رمية من القُبَّة التي وقف البابا على جدارها المحيط والتقى أبناء
مخيم عايدة القريبة، في رسالة قوية ضد الجدران، أزعجت من بنوها.
يكملون
السير إلى البلوطة وهذا يذكرهم بالأيام الخوالي، عندما كان الوصول إليها يعني أنَّ
القدس أصبحت على بعد رمية. عند الوصول إلى دير مار الياس، ينحرفون مع يمين معسكر
الجيش الأردني المرابط على الحدود الجديدة، منهم من يتتبع خط قناة السبيل التي
نقلت الماء إلى القدس وخدمت أكثر من ألفي عام، حتى نكبتها النكبة، وبقي منها المواسير
الإنجليزية التي جلس عليها أطفال المخيم وأولاده يؤرجحون أرجلهم.
يتأسون
على دار السقا، القريبة من دير ما الياس، التي سماها بعضهم دار المجانين. خلال حرب
النكبة، استولى عليها الجيش المصري، واستخدمها ضمن المعارك التي دار حول القدس
وبيت لحم، خصوصا ضد مستعمرة رمات راحيل. سيلاحق صاحب الدار، المصريين، إلى القاهرة
بعد نكبة البلاد والعباد، ليحصِّل حقه، ولكنَّه عاد خائبًا، ولم يكن ذلك نهاية
المأسي.
يصلون
أم طوبا وصور باهر، حتى جبل المكبِّر، منهم من يسترح في مقهى أبو جوهر، الموقع
المهم على طريق القدس الجديدة، ربَّما توقف عنده الملك حسين، في طريقه الى بيت لحم
والحليل، وربما توقف عنده البابا بولس السادس، في زيارته التَّاريخيَّة للأرض
المقدَّسة، قبل أن يتوقف عند دير مار الياس التَّاريخي، ويرى ما حدث لشارع القدس-
الخليل التَّاريخي. ربَّما ملَّ من الأرض المقدَّسة التي قد تكون تاريخيتها، من
أسباب مآسيها.
التوقف
عند أبو جوهر له مغزى عندما يرون القُبَّة الأموية مسيطرة على المشهد في بلدة
القدس القديمة. لقد فعلها عبد الملك، وهي يؤسِّس لإمبراطوريَّة عربيَّة، ويعربن
فلسطين. ربَّما خيِّل لأحدهم أنَّه يقف موقف النبي ابراهيم عندما وصل البلاد
الموعودة، فرأى المكان ودهش، رغم أنَّه يُفترض أن وجود لهياكل أو أوابد على التلة
الصغيرة المشرفة على وادي جهنم، وكنيسة الجثمانية وقبر سِتنا مريم وغيرها. في
عملية تثاقف تُميِّز الأرض المقدسة، ستتكرَّر الحادثة في عهدٍ جديد، انبهر الخليفة
الثَّاني عمر بن الخطاب، بما يمكن أن يكون هيكلًا مدمر فكبَّر، وسمي الجبل بالمكبِّر،
أمَّا بالنسبة للمسيحيِّين فهو ليس إلَّا جبل المشورة الفاسدة التي ستودي بالسيِّد
الَّذي ترك مسكنه السماوي ليحاول إصلاح بشر الأرض المحيرين. لكن هيهات، ففي الأرض
المقدَّسة تجارب لوطيء الموت بالموتِ، وكما فعلها أدونيس، فعلها السيِّد، أزاح
صخرة القبر، وصعد، ليرعى ناس الأرض من عَليه.
يواصل
المشاة العظام نزولًا إلى سلوان بمحاذاة الثُوري، يتوقفون طويلًا في عين سلوان
المؤسطرة، يستحمون ويتطهرون، وإذا مُنحو أعينًا كعيني جبرا إبراهيم جبرا فسيلفتهم
قبر سِتنا مريم، الذي زاره معاوية ابن سفيان. ثم يصعدون إلى قبتهم الأولى، الذي
قال لي موسى درويش في نقاشٍ، ليؤكِّد العلاقة بين الإسلام والعروبة، كيف أنَّ ربّ
العرش اختار مكة، قُبلة من أجل عروبة الرسول العربيِّ الكريم. من البعثيِّين من عد
الرسول العربي، أوَّل بعثيّ!
بعد
انتهاء الصلاة، منهم من يظل لصلاة العصر أو المغرب، ينطلقون في شوارع القدس
القديمة، منهم من يشتري الكُسبة من مطحنة السمسم في باب السلسلة، أو مُطبق زلاطيمو
الشهير الشهي، أو الكعك الطريّ، أو التمرية.
ثم يركبون الحافلة كما في الصورة ليعودوا من نفس الطريق.
يبدو
لي أن المشي الطقسي، قد يكون معادلًا للمظاهرات الصاخبة التي تستقطب الشبان وتنطلق
من المخيم إلى بيت لحم.
#أسامة_العيسة

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق