شهادة
روائية قدمت لمؤتمر القدس في الرواية العربية، جامعة البتراء-عمّان، خريف 2019
أوّل
عندما
أقف قُبالَة باب العمود، باب بلدة القُدْس القديمة المفضي نحو الشمال، أتخيّل
السُّلْطَان سليمان، ومعماره سِنان، يقرعان الكؤوس، وهم يخططان لإعادة بناء السور
المهدم حول القُدْس، على أنقاض، الباب الروماني، ويبدو السُّلْطَان، مستعجلاً، بعد
أن حلم، بأنّه إذا لم يبن السور، فان الأسود يمكن أن تلتهمه، على ما تقول الأسطورة
المحلية.
وأتخيَّل
كيف تتغير المدينة بسرعة، منذ ذلك الزمن البعيد، والزمن الأقرب، ففي مكان إبراهيم
شبانة، بائع المجلات والكتب، بجانب الباب، ينتصب برج عسكريّ احتلاليّ، وهو يشوه
المدينة، يؤكد على واقعها المغاير، لما أرادها الاحتلال؛ قُدْس موحدة تحت حرابه،
وعاصمته إلى الأبد.
في
رد فعل، على ذلك، يرفع الفلسطينيون، شعارًا مشابهًا؛ قُدْس عاصمة فلسطين إلى
الأبد. ماذا عن الرملة مثلاً، التي اضطلعت بدور العاصمة لقرون؟ هل أتحدث عن حُفر
ردات الفعل؟
عشق
إبراهيم، عبد الحليم حافظ، وأصدر كتيبات ملونة، تحوي كلمات أغاني العندليب الأسمر،
الذي يزعم إبراهيم أنه استقبله، شخصيًا، مندوبًا عن إحدى الصحف، في مطار قلنديا،
قبل الاحتلال، عندما كانت القُدْس، قُدْسًا، ولها مطار، وعندما رحل مغنيه المحبوب،
فتح بيت عزاء له، وفي كل سنوية، كان يوزع، بيانًا، على المارين، مذكرا بمنشد الحب
والقومية العربية، وكأنّه يقترف فعلاً ثوريًا، وهو يمد المنشور، بثقة للمارين، غير
آبه بعيون جنود الاحتلال، المنتشرين في المكان، والتي تجوس، على قامات النَّاس،
وتحصي الحركات.
في
عام 1982، عندما خرجت من معتقل المسكوبية، وسرت من القُدْس الجديدة، إلى القُدْس
المسورة، كان بائع الصحف البسيط، من الذين التقيتهم، كي أُأَكد لنفسي، بأنني
فعلاً، أصبحت حرًا (الحرية النسبية طبعًا). أعطاني إبراهيم مخطوطة منقورة على
الحاسب، وممنتجة، عن قصة عشقه الأبدي، للمغني المصري، لأنقحها، مستبشرًا بي خيرًا،
وسيظهر إبراهيم في روايتي المسكوبية (رام الله، 2010م) كواحدٍ من شخوصها، وباسمه
الصريح.
عندما
أمضيت تلك الأيام العصيبة، في المسكوبية، كنت أرى في نفسي كاتبًا، نشر قصصًا في
الصحافةِ المحلية، وشارك في الأنشطة الأدبية، التي كانت تعقد في القُدْس، أيقنت بأنني
سأكتب عن الشخوص التي قابلتها في المعتقل، ولكن، في تلك الأجواء المجتمعية، التي
سادت الأرض المحتلة، لم يمكن ممكنًا، أن أكتب بحرية، وهي الحرية النسبية التي
يحتاجها الكاتب، ليكتب، فانتظرت سنوات طويلة، حتى خرجت الرواية، من ظلمة الأدراج،
إلى نور القراء.
سأعود
في رواية المسكوبية، سنوات إلى الخلف، لمحاولة قول أشياء كثيرة، عن قُدْسي الخاصة،
قُدْس الثمانينات، بعوالمها التحتية، والخلايا الطلابية، والتنوع الاثني والطائفي،
الذي طالما شكّل غنى للمدينة، التي رأيتها دومًا، مدينة فوق قومية، وما زلت
أستغرب، كيف تقدم، من خلال الشعارات، والخطب السياسية، كمدينة أحادية، وأدرك أنهم
يتحدثون عن قُدْس أخرى، غير قُدْسي.
كتبت
المسكوبية، بوعي بأنني أريد أن أقدم شكلاً جديدًا، على الأقل ضمن المدونة السردية
للمدينة، ولإيماني أن أيّة رواية هي مغامرة في الشكل والأسلوب، وتحتاج أساسًا، إلى
عملٍ ميداني، فحضر في الرواية العمل البحثي، والتقنيات الصحافية في بعض الفصول،
والواقعية، في ذكر أسماء شخوص حقيقية كالشاعر توفيق زيّاد مثلاً.
خضت
غمار هذه التجربة، وأنا أدرك، أنها مثل كل التجارب، ليس هناك شيئًا مضمونًا، ولكن
لم يكن، لدي أي خيار، لكتابة أي شيء عن القُدْس، ضمن المحددات الشعاراتية،
والتعامل مع المدينة، كمعطى سهل التناول.
#رواية_المسكوبية
#باب_العامود