ترتبط الحرب العالمية
الأولى بالنسبة للفلسطينيين بأسوأ الذكريات، وهي التي سميت بالسفر برلك، والتي كان
المجندون عندما يذهبون إليها، يوقنون بأنهم لن يعودون، ومن عاد منهم، سيعود مشوها،
كما حدث لأبي طبر في روايتي (وردة أريحا).
كتبها المرحوم ميخائيل
الخوري فريج يوميات عن تلك الفترة، واطلعنا عليها بفضل المؤرخ خليل شوكة: "إن
الحرب العظمى بدأت في 2 آب 1914، وهذا أزعج الدنيا وصار بلاءًا عظيمًا في البلاد،
الإنجليز أغلقوا البحر عن العالم، وصار ضيق وانقطعت الأسباب والأشغال، والذي كان
يساوي عشرة قروش أصبحت قيمته خمسة قروش ولكن لم يكن هناك شارِ، فالمعامل والمحلات
أغلقت، والفائدة على المصاري من الأغنياء كانت في المئة خمسون قرشاً، وضاقت الدنيا
في وجه الناس خصوصاً الفقراء الذين صاروا يشحذون وكأنه لا يكفي ذلك، فحدث هجوم
الجراد على البلاد وأكل التين والعنب وكافة الأشجار، وصار رطل العنب بِ 12 قرشاً،
والقليل القليل من المزروعات سلم من الجراد، ووصل سعر رطل الزبيب إلى 30 قرشًا،
وشرحه وقية الدبس 4 قروش، ورطل القمح 10 قروش، ورطل الشعير والعدس 7 قروش. وكان
الضيق لا يوصف، وقام جمال باشا القائد العسكري وزاد الضغط على الناس، وكان الذي
يضبط وعليه خيانة للدولة أو مؤيد للثورة يتم إعدامه أو شنقه أو رميه بالرصاص،
وصارت فائدة القرش قرش في السنة، وكثير من الناس ماتوا من الجوع لعدم وجود الأكل
حتى صار الوفيات في العساكر، ولم يكن هناك أحد لدفنهم، حيث يتم دفنهم مباشرة بدون
مراسيم الصلاة عليهم. ونتيجة لقلة أو لانعدام الأكل صارت الناس من الجوع تفتش على
وسخ وبعر الحيوانات، كل الناس باعت مصاغها وأثاث بيوتها من أجل شراء الأكل. وفي
شهر كانون أول 1916، صار كل 3 أرطال قمح سعره ليرة عثماني (100قرش)، وكانت الناس
تصيح في الشوارع وفي الأسواق (جوعانين)، ووصل رطل القمح إلى 45 قرش، وكثير من
الناس حملت ديون كبيرة بالفايدة وأصبح الوضع لا يطاق. ولما انهزمت القوات
العثمانية، صار الجنود والعساكر تهرب وتشرد من القواعد العسكرية، وبدأ النهب على
بيوت الناس".
وأضاف فريج:
"دخل الإنجليز بعد حصارهم للقدس 20 يوماً في 25 تشرين الثاني يوم عيد القديسة
كاثرينا، وحضروا إلى بيت لحم مع قوة كبيرة وصار ضرب مدافع على طول الخط، إلى أن
انسحب الأتراك من القدس وبيت لحم يوم 26 تشرين الثاني، وصار فرح عند الناس وصارت
الناس تقول لبعضها (كل عام وأنتم سالمين)".
في وطنٍ مثل فلسطين،
تعوّد ناسه على الاحتلالات، عادة ما يمني الناس أنفسهم بأن المحتل الجديد، سيكون
أفضل من المحتل القديم، وهو ما حدث مع النّاس مع انتهاء الاحتلال العثماني الإقطاعي،
فهنئوا أنفسهم كما يقول فريج، وكتب اسكندر الخوري البيتجالي مرحبا ببني التايمز،
ولكن سرعان، ما كشف المحتلون الجدد، كما فعل من سبقهم، عن وجهٍ آخر.
تبا للمحتلين
الأوغاد، عندما يخيبون ظن المحتلين المساكين، الذين سيبدأون التحسر على المحتل
السابق، ولكن هذا، ويا للغرابة، لم يحدث مع بني عثمان.
وقد يكون من
المفارقات، انه خلال تلك الفترة التي انتشرت فيها المجاعة، وفتكت الأوبئة بالنَّاس،
ان تشهد بيت لحم، طفرة في بناء القصور، بأموال أبنائها العائدين من المهجر، مثل
قصر ميخائيل القوّاس في حارة النجارة، ودار جاسر.
**
الصورة: نقش على مدخل
قصر القوّاس، يؤرخ لتاريخ البناء.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق