رأيي ضمن استطلاع أعدته
الزميلة بديعة زيدان لمجلة الفيصل السعودية عن الصراع مع دولة الاحتلال:
التاريخ هو الذي
ينتصر دائمًا، عندما تفكر بقوة التاريخ ومساراته على هذه الأرض سيبدو هذا واضحًا
وحتميًّا. تاريخ فلسطين، هو سلسلة من الاحتلالات، وتفككها، وبالنسبة لشعبٍ غيّر
ديانته على الأقل ثلاث مرات خلال ألفي عام، ولم يتغيّر(.. نسبيًّا)، فإنه كان
دائمًا لديه قدرة على نقل نسغ هوية متنامية وديناميكية، قادرة على أخذ ما يصمد من
ثقافة المحتلّ وثقافته، والمضيّ إلى الأمام.. وفي كل منعطف، دينيّ أو تاريخيّ،
يدخله الشعب الفلسطينيّ، رغم المعاناة بمكرٍ وتحايل، وهو ينتقل من مرحلة إلى أخرى،
يأخذ معه أفضل ما كوّنه في المرحلة السابقة، وهكذا نرى الفلسطينيّ الآن، مزيجًا من
ثقافات الشرق القديم، والديانات التوحيدية، وحسّه الخاص الذي طوره إزاء نفسه
والعالم. لم يختلف حال فلسطين الآن، مع الاحتلالات السابقة، التي تميز حاملو
راياتها برفع كتاب مقدس في يدٍ، والسيف (.. والرشاش الآن) بيدٍ أخرى، ومارست كل
منها عمليات تهجير للسكان، وإحلال غيرهم مكانهم، ولكن كيف كانت تنتهي هذه
الاحتلالات، التي لا يطول الواحد منها أكثر من قرن، في الأغلب؟ قبل محاولة الإجابة
عن السؤال من المهم الإشارة إلى انحناء الاحتلالات، مع مرور السنوات، أمام الثقافة
المحلية، وتبني بعضها، وإلى احتكام ما أسميه منطق البلاد، فلكل بلاد منطقها، لا
ثقافات فوق التاريخ والجغرافيا.
في أثناء الاحتلال
الصليبي، كل محتلّ كان يمضي عشرين عامًا في فلسطين، يتحول أكثر فأكثر إلى شرقي،
وأصبح التمايز، بين المجتمع الاحتلالي الصليبي، واضحًا بين صليبي البلاد الشرقيين،
وأولئك الذين يأتون من وراء البحار. نحن الآن شهود على تبني أوساط واسعة من
المحتلين الإسرائيليين لمفردات ثقافية فلسطينية، فالمقامات الإسلامية، يحوّلها
الإسرائيليون إلى مقامات يهودية، وبعض التقاليد التي طوّرها الفلسطينيّون القدماء
حول شخصيات عربية ومحلية، تبناها أيضًا الإسرائيليون، فمن يصدق مثلًا أن الشخصية
الشعبيّة المحلية في ريف القُدْس؛ الأمير بدر، يتحول مقامه المحتل، إلى مزار
للعقيمات اليهوديات، اللواتي يطلبن شفاعته كي يُرزَقن بأولادٍ وبنات؟. ويستخدم
الإسرائيليون أكثر فأكثر ما يفخر به الفلسطينيّون، كالكوفية، والثوب المطرز،
والحمص، والفلافل، والأسماء والأساطير المتعلقة بالمواقع الجغرافية، كما استعار
المستوطنون في الأراضي المحتلة عام 1967م، صورة «فتى الانتفاضة» التي أبهرت العالم
في الانتفاضة الفلسطينية الأولى، فيخرج هؤلاء في احتجاجاتهم ضد سياسات إجرائية
لحكومة الاحتلال وهم مقنّعون بالكوفيات، وحاملو الحجارة، وكذلك يفعلون في أثناء
مهاجمتهم للفلسطينيين.
قد يطول الزمن أو
يقصر، وتفكك دولة إسرائيل كدولة احتلال، وفي أي دولة فلسطينية ديمقراطية مقبلة،
سيظل هناك وجود مؤثر لمواطنيها اليهود، وربما يمسكون بمفاصل الصحافة، والثقافة،
والاقتصاد، لكن هذه هي فلسطين، التي لا تخرج من أي احتلال منتصرة بشكل حاسم، لكنها
قادرة في كل مرة على فرض منطقها.. دولة الاحتلال الإسرائيلي تتحول أكثر فأكثر إلى
دولة أبارتهايد، والجميع يعلم كيف انتهت دولة الأبارتهايد الكبرى في عصرنا؛ جنوب
إفريقيا.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق