لم يكن ينوي الاضطلاع
بالمهمة، ولكنه تحمس لها، عندما وجد نفسه مندفعّا بقوة الشعارات، والروح الوطنية،
كظبي وثاب.
انطلقت الجموع هادرة،
تحمل على الأكتاف، صليبًا ضخمًا، تهتف ضد الاحتلال، الذي صادر جبل أبو غنيم، ليقيم
عليه مستوطنة (هار حوما)، وبدا للهادرين، بان كل العالم يسمعهم، وهم يرون الحضور
المكثف، وربما المبالغ به، لوسائل الإعلام، والتي حرص بعضها على بث الوقائع
مباشرة.
انشغل العالم بجبل
أبو غنيم، وأصبح آنذاك، أشهر جبل في العالم، زار الهادرين، على جبل الديك المقابل
لجبل أبو غنيم، دبلوماسيون، وسياسيون، ومطبعون على غرار الكاتب المصري لطفي الخولي
من جماعة كوبنهاغن، الذي أراد أن يتحلى بخفة دم فخاطب الصامدين:
-عايزين ايه يا
فلسطينية؟
ووصل صحافيون مثل
عماد أديب، الذي عندما وصل الجبل لاهثا، وجد نفسه محاطا بوسائل إعلام مختلفة،
ويدلي بتصريحات صحافية راديكالية، حذر فيها أميركا من مغبة السماح لمشروع الاحتلال
الاستيطاني بالنفاذ، وإلا فان الشارع العربي، سينفذ إلى المصالح الأميركية.
أشكال المقاومة
الشعبية المختلفة التي شهدها جبل الديك (وسائل الإعلام الفلسطينية والعربية أصرت
كذبا وجهلا ان الاعتصام الذي استمر فترة طويلة على جبل أبو غنيم)، تعددت، وحرص
الغاضبون على إظهار التنوع الديني في فلسطين، والتركيز على هوية أصحاب أرض الجبل
الدينية.
عندما وصل الهادرون
إلى قمة جبل الديك، وسط أمواج الهتافات والأغاني الثورية، كان كل شيء جاهزا
لاستقبال الصليب الضخم، الذي ثُبت في الأرض في مكان أُعد مسبقا، ووجد حنّون نفسه،
مندفعا ليمثل دور المصلوب على الصليب. فثُبت بإحكام، مفرود اليدين، والقدمين،
وتقدم أحدهم ووضع على رأسه إكليل الشوك، وبدا المشهد مثاليا من ناحيته التعبيرية
المتوخاة، وليختبر حنّون، كيف يمكن لابن الإنسان، أن يكون، في الوقت ذاته، ابن
الرب..
ولكن الأمر لم يستمر
طويلاً، حنّون المصلوب، فرح بدوره الوطني، والهادرون حوله يُسمعون أصواتهم للعالم،
وتصعد صرخاتهم للسماء، حيث مستقر المصلوب الحقيقي. تقدم جنود الاحتلال، وتساقطت
قنابل الغاز المدمع، وتقهقر الهادرون، وفوق رؤوسهم، تمر العيارات النارية ويتساقط
الغاز القاتل، محاولين، وقف معاناتهم بالبصل، أو تغطية أنوفهم بخرق، أو أي شيء
متوفر.
أمّا حنّون، الذي وجد
نفسه مقيدًا، ووجهه اصفرّ والبرد غزا شفتيه، على الجبل وحيدا على الصليب، فلم تكن
لديه أية فرصة ليستخلص العبرة من الموقف الذي أراده الرب أن يكون فيه، اختنق
بالغاز، وكانت مسألة تحرير أطرافه المثبتة على الصليب مستحيلة، صرخ، كفر، شتم
الهادرين، نادى، استنجد بالرب، وسب أبنائه الهاربين. كان في الواقع، يعيش لحظات
جحيمية، ومن مثل الرب قدرة على الغفران.
انت الدنيا برد كثير
ووجهه اصفر وشفايفة المسكين وهو على راس الجبل وفوق الصليب ولا مره بروح من بالي
كلما بتذكر الموقف بصير اضحك
نجا حنّون بأعجوبة من
الموت اختناقا على الصليب، بفضل، ويا للمفارقة، جنود الاحتلال الذين حرروه، لكي
يغلظوا عقابه، ولكن بالنسبة إليه فان أي عقاب لا يقارن مع الموت البطيء على الصليب
الحقيقي، مقدرًا معاناة المصلوب الحقيقي ابن البلاد الذي صعد إلى السماء قبل ألفي
عام، ولو عاد، لوجد أن لا شيء تغير في البلاد، ولاستغرب لماذا لم يقل حنّون، وقد
جرب الصلب، بأنه ابن آخر مثله للرب.
في التظاهرات
التالية، كان حنّون يسير في الصفوف الخلفية، ليكون أول الشاردين من بين الهادرين.
**
الصورة: عن صفحة اياد
قسيس
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق